أثارت تصريحات وزيرى التعليم والصحة، اثناء مناقشة مجلس النواب لمشروعى الموازنة العامة وخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن العام المالى 2019/2020، العديد من التساؤلات والاستفسارات حول آليات صنع الموازنة وجدواها وذلك بعد ان أعربا عن رفضهما للمشروع المقترح نظرا لأنه لا يلبى الاحتياجات الضرورية لهذه القطاعات, فهل هذه الآلية لا تمكن الوزارات المعنية من ابداء الرأى قبل التوجه للبرلمان؟ ام ان الوزراء يؤجلون مناقشتها لحين العرض على البرلمان؟ وتنبع أهمية هذا التساؤل فى ضوء الأهمية القصوى لهذه الوثيقة والتى تعد من أهم الوثائق التى تطرح على البرلمان، باعتبارها تعبيرا عن السياسة المالية والاقتصادية خلال عام مقبل، من حيث تخصيص الموارد بين القطاعات المختلفة، وكذلك الطلب الكلى، ناهيك عن تأثيرها فى سياسات الدخول عن طريق الدعم والنفقات الاجتماعية، بينما تتيح الإيرادات العامة الفرصة للدولة لتلبية الأهداف العامة وتحميل الأعباء الاجتماعية على الفئات القادرة. وهذه الأمور تتحقق عند صنع الموازنة وكذلك عند التنفيذ الفعلى لها. وهنا تطرح عدة تساؤلات عن مدى الاستجابة لاحتياجات المجتمع؟ ومدى العدالة فى الإيرادات والنفقات؟ ومدى المساواة فى الأعباء؟ وأخيرا مقدار الشفافية التى تتمتع بها؟ من هذا المنطلق تبرز أهمية الفهم التام والإدراك الكامل لكيفية تخطيط وإعداد الموازنة وتنفيذها، وهو ما يتطلب ضرورة البحث عن إجابات لبعض التساؤلات ،منها من المسئول عن تخطيط وإعداد الموازنة؟ وما هى حدود الدور الذى تلعبه وزارة المالية وعلاقتها بالوزارات الأخرى؟ وما هو دور كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية فى هذا الخصوص؟ وماهى المراحل الأساسية فى إعداد الموازنة؟ إن الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها تتطلب معرفة آليات صنع الموازنة ومدى مشاركة الوزارات المختلفة والمجتمع فيها، وإن كان من المتفق عليه بشكل عام أن السلطة التنفيذية هى السلطة المنوطة بإعداد الموازنة فى حين أن السلطة التشريعية هى المسئولة عن الاعتماد والمراقبة. ويعتبر وزير المالية المسئول عن رسم وتنفيذ السياسة المالية ويضطلع الوزراء المعنيون بتنفيذ السياسات المختلفة كل حسب تخصصه. ويمر إعداد الموازنة فى مصر بعدة مراحل أساسية الأولى تتمثل فى الإعلان عن منشور إعداد الموازنة وفيه تستعرض وزارة المالية المحاور الأساسية التى ترتكز عليها السياسة المالية، متضمنا الأهداف الرئيسية للمشروع والقواعد العامة لتقديرات الاستخدامات والموارد التى يتعين على الجهات المختلفة واللجان المشكلة بها لإعداد مشروع الموازنة والعمل على تحقيقها والالتزام بها. مع ملاحظة ان القانون نص على ضرورة تشكيل لجنة متخصصة فى كل جهة تتولى إعداد مشروعات موازنتها وفقا لما أسفرت عنه النتائج الفعلية لتنفيذ الموازنة خلال السنوات الثلاث السابقة، مع مراعاة معدلات النمو الحقيقى والتضخم على أساس المقاييس والأنماط الكمية والمالية والدراسات والأبحاث الفنية والاقتصادية ومع مراعاة استبعاد أى إيرادات استثنائية تحققت خلال السنة. ويلاحظ أن إعداد الباب السادس الخاص بالاستثمارات، يختلف عن الأبواب الأخرى للموازنة، حيث تقوم الوزارات المختلفة بمناقشة موازناتها الاستثمارية مع وزير التخطيط وبنك الاستثمار القومي. من هذا المنطلق تقوم جميع الجهات والأجهزة المختلفة، بموافاة وزارة المالية بمشروعات موازناتها، فى مواعيد محددة، ثم تتم مناقشته بين هذه الجهات والقطاع المختص بالموازنة المعنية فى وزارة المالية. ثم بعد ذلك تقوم وزارة المالية بإعداد مسودة لمشروع الموازنة وتقوم المجموعة الوزارية الاقتصادية بمناقشة هذه المسودة. وذلك بغرض القضاء على أى مشكلات قد تقع بين الوزارات المختلفة. ويتم عرض نتائج تلك المناقشات على مجلس الوزراء بأكمله للموافقة. وبناء على تلك المناقشات، يقوم وزير المالية بإجراء التعديلات اللازمة بعد إقرارها وإعداد مشروع الموازنة المعدل الذى يتم إرساله إلى رئيس الجمهورية لإجازته. ويتم تسليم مشروع الموازنة لمجلس النواب، ويقوم وزيرا المالية والتخطيط، كل فى مجاله، بإلقاء بيان لشرح أهداف الموازنة والخطة والمنطق الذى تم إعدادهما فى إطاره. ثم بعد ذلك تتم مناقشة المشروع داخل لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب واللجان الأخرى. وبعد ذلك تقوم اللجنة بإعداد تقرير عن المشروع لعرضه على الأعضاء لمناقشته والتصويت عليه، وبعد ان يتم التصديق على مشروع الموازنة، يتحول إلى قانون يبدأ العمل به مع بداية السنة المالية، وتبدأ مرحلة التنفيذ، وبعد انتهاء العام المالى مباشرة، تقوم الوزارات المختلفة بتقديم حساباتها الختامية لمناقشتها والانتهاء منها. ويقوم الجهاز المركزى للمحاسبات بمراجعة تلك الحسابات ويشترك كذلك فى المناقشات التى تتم بين الوزارات تمهيدا لإنهاء تقريره النهائي. وفى النهاية تقوم وزارة المالية بإرسال مختلف الحسابات إلى مجلس النواب لمناقشتها، ويرسل تقريره إلى المجلس ويناقش التقريرين معا. ومن خلال المتابعة الدقيقة للمناقشات التى تتم داخل البرلمان نلاحظ انها تعانى عدة مشكلات يأتى على رأسها التعامل معها على أنها مجرد ارقام صماء وبيانات محاسبية، وبالتالى يتم التركيز على هذا الرقم او ذاك دون التعرض للسياسات التى تعكسها هذه الارقام وهو ما تم خلال الفترة الأخيرة حيث انتهت بعض لجان البرلمان من مناقشة مشروعات خطة وموازنة بعض الجهات دون التعرض للسياسات المزمع تطبيقها، وعلى الجانب الآخر فغالبا ما تقتصر المناقشة على مشروع الموازنة دون الخطة، رغم ان الأولى هى التعبير المالى عن الثانية، وبالتالى يجب ان تتم مناقشة الاثنين معا واخيرا فان المناقشة لا تتم بصورة متكاملة وفقا للتقسيم الاقتصادى، وكذلك الوظيفى والإدارى، فمثلا حينما تناقش موازنة التعليم يجب ان تتم أولا وفقا للتقسيم الاقتصادى الأجور وشراء السلع وخلافه، ثم على المستوى الإدارى ديوان الوزارة والمديريات التعليمية بالمحافظات وهيئة الأبنية التعليمية ثم بعض الهيئات الاقتصادية المرتبطة بالتعليم، وكذلك قطاع الصحة حيث الديوان العام فى الجهاز الإدارى والمستشفيات الحكومية فى الهيئات الخدمية والمديريات الصحية بالمحليات، فضلا عن هيئة التأمين الصحى بالهيئات الاقتصادية، ومنه تتضح الصورة الكاملة للقطاع، اما دون ذلك فهى مناقشة محدودة لاتسمن ولاتغنى من جوع ورغم التحسن العام فى شفافية الموازنة، إلا ان هناك بعض جوانب الضعف الشديدة تتمثل فى عدم توفير الفرصة الكافية للمواطنين للمشاركة والمناقشة، حيث لا تقوم لجان المجلس بعقد جلسات استماع للخبراء والمتخصصين عند مناقشة المشروع كما انها لا تنشر وجهات نظرها على الجمهور، وكذلك عدم إتاحة بعض التقارير الخاصة بالمتابعة للرأى العام. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالى