لعل من كبرى مشكلاتنا أننا لا نقرأ التاريخ قراءة فلسفية كلية، ونكتفى ببعض الأجزاء المقتطعة من سياقها ونقف عندها ونستعيدها ونتغنى بها ونضعها كهدف مثالى لنا ونعمل على أن نعيش طبقا لها. مع أن هذا غير ممكن, لأن الزمان غير الزمان والمكان غير المكان، والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مختلفة تماما. ولهذا فشلت كل النزعات الماضوية. وطريقة تفكير العقل الجمعى فى مصر لا تزال ماضوية، تريد بناء المستقبل كنسخة للحظة تاريخية سابقة، متجاهلة سنن التاريخ وسنن التقدم. وفى تصورى أن التعامل مع التاريخ تعاملا تجزيئيا يعد من أكبر الثغرات فى طريقتنا فى التفكير، وأيضا من أكبر الإخفاقات فى نظامنا التعليمى أنه يتعامل مع التاريخ بوصفه تاريخ الحروب والصراعات فقط، ويتجاهل تاريخ الحضارة والفن والعلم والفلسفة. ولا يقف الأمر إذا أردنا تطوير العقل الجمعى المصرى، عند وجوب النظر إلى التاريخ نظرة كلية، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة معرفة سنن التاريخ وقوانينه وفلسفته، حتى نعرف سر التحولات الكبرى، ونتعلم من أخطائه ونجاحاته، ونتعلم من المنطق الذى يحكمه. ومن أسف أننا فى كل المشاريع الفكرية العربية فى العصور الحديثة، لم نحاول التوقف لمعرفة سر الانتقال من عصر إلى عصر عبر التاريخ. ومن وجهة نظرى أن سر التحول يكمن فى تغيير طريقة التفكير. فإذا تغيرت طريقة التفكير تغير كل شيء، لأن قواعد التفكير هى النظام الذى يحكم عمل الأفكار، وطريقة التفكير هى التى تنتج الأفكار أو تهيئ لاستقبالها، والأفكار تتحول إلى سلوكيات. لذلك، فإن الفكر الداخلى هو أساس السلوك، وهو الجوهر الذى يتجلى فى الواقع المعاش. وإذا قلت لى كيف تعيش, فسوف أقول لك كيف تفكر. فنمط الحياة نفسه هو نتاج طريقة التفكير، ونوعية الأفكار تؤثر على نوعية الحياة بما فيها العادات والتقاليد وعلاقة الناس ببعضهم البعض وعلاقتهم بالدولة والعالم. ولن تنجح أى دولة دون الناس، ولن ينجح أى مشروع للتنمية الشاملة دون أن يتغير الناس أنفسهم، ولن يتغير الناس دون أن تتغير طريقتهم فى التفكير. وبالتالى لن يتم إصلاح الخطاب الدينى أو تأسيس خطاب دينى جديد دون تطوير طريقة التفكير، ولن تتحقق تنمية اقتصادية دون تطوير العقل المصرى، وتغيير طريقة عمله, لأنها كلها أمور مرتبطة ببعضها فى بنية العقل، ولأن المنهج الذى يحكم كل هذا فى النهاية كامن فى تكوين العقل البشرى وآلية عمله. وهنا يكمن سر التحولات الكبرى عبر عصور التاريخ، وهنا تكمن الإجابة على السؤال الرئيس: كيف يتم افتتاح عصر جديد؟ وربما تختلف النظريات فى تحديد مفارق الطرق فى التاريخ الإنسانى، لكن ربما لا نختلف أن ثمة تغييرا كبيرا حدث مع مجموعة من الأنبياء والفلاسفة والعلماء وقادة الإصلاح السياسى، مثل: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد, عليهم السلام, وبوذا وكونفوشيوس ومارتن لوثر وسقراط وفرانسيس بيكون وديكارت وجون لوك وجان جاك روسو وكنط وآدم سميث ولينين وغاندى ودنغ شياوبنغ، وغيرهم مما يضيق عنهم مقال واحد. وإذا نظرنا فى حقيقة عمل كل شخصية من هؤلاء وإنجازها فى عملية التحول لعصر جديد، سوف نجد أنها قد استطاعت تغيير طريقة التفكير فى عصرها، وبالتالى تغيير رؤية العالم، ومن ثم تغيير العقل الجمعى ونمط سلوكياته، وهو ما يؤدى بشكل مباشر للانعكاس على عملية التحول نحو عصر جديد. وعلى سبيل المثال، فإن إبراهيم عليه السلام خاض تجربة تغيير طرق التفكير حين حاول أن ينتقل بتفكير قومه من التفكير الحسى إلى التفكير العقلانى النقدى، لينتقل بهم من قوم يعبدون الكواكب والقمر والشمس وكلها حسية، إلى قوم يعبدون الواحد المجرد غير المرئى، والانتقال من الحسى المادى إلى المجرد غير المرئى لا يكون إلا بالعقل. وحين أنكر عليهم عبادة الأصنام وسألوه إن كان هو الذى حطمها قال: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، إنه يحاول أن ينقلهم من المنطق الحسى إلى المنطق العقلى. كما انتقل مع النمرود من الحجاج الحسى إلى الحجاج العقلى. إذن وفق هذا التأويل, وهو ما فصلنا فيه القول فى كتابنا نحو تأسيس عصر دينى جديد, نجد أن إبراهيم عليه السلام اتخذ من المنهج العقلى طريقا للوصول إلى الحقائق الواضحة والمتميزة، هو ما قامت عليه الفلسفة العقلانية الحديثة التى افتتحت مع فلسفات وحركات علمية وفنية واقتصادية أخرى العصر الحديث التى ودعت فيه أوروبا عالم العصور الوسطى. فالمشكلة التى واجهها أبو الأنبياء فى عصره كانت مشكلة العقل الجمعى المغفَّل والنخبة الضالة, ومنهجهم القائم على المنهج الحسى واليقين المطلق بصحة أقوال السابقين وسدنة الدين والتاريخ. والمشكلة التى واجهها فلاسفة العقلانيةالمحدثون هى أيضا سيادة روح القطيع وأقوال الكهنة وتفسيرهم الأحادى للكتاب المقدس. هكذا رفض إبراهيم عليه السلام إسكات عقله، وهكذا رفض فلاسفة العقلانية إسكات عقولهم. مع إبراهيم بدأ دين جديد يرفض التقليد، ومع فلاسفة العقلانية تم الشروع فى تأسيس عصر جديد وخطاب فكرى جديد تراجع فيه لاهوت العصور الوسطى الذى كان يحتكر فيه رجال الدين فى أوروبا الحقيقة الواحدة والنهائية، لمصلحة طريقة جديدة فى التفكير تقوم على إخضاع كل شيء للفحص العقلى النقدى الحر الذى يستند إلى التحليل والمقارنة والفرز ووزن الأدلة ومصادرها وسلامة الاستدلال ودقة الانتقال من المقدمات إلى النتائج. وهنا يكمن سر التحول نحو عصر جديد.