هلك المتنطعون. قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا. أما المتنطعون فهم أدعياء الدين، والمتكلفون والمبتدعون فيه، وهم الذين أضرت سلوكياتهم وتصرفاتهم الإسلام، وما أكثرهم بيننا، وفى عالمنا الإسلامي. وأما التنطع، فهو الابتداع فى الشيء، والتعمق فيه بصورة تخرج عن حدود الاتزان، وتضييع الوقت والجهد فى ما لا طائل منه، ومن أبرز أمثلته الإكثار من التفريع فى مسألة لا أصل لها فى الكتاب ولا السنة ولا الإجماع. وحسنا فعلت وزارة الأوقاف عندما أصدرت تعليمات مشددة إلى جميع المساجد قبل رمضان بقصر استخدام مكبرات الصوت على الأذان والإقامة وخطبة الجمعة، مع تشغيلها فى صلاة التراويح والدروس الدينية داخل المسجد فقط. تعليمات الأوقاف استثنت المساجد التى يكثر فيها عدد المصلين، وتمتد صفوفهم إلى خارج المسجد، ويحتاجون بالتالى إلى وجود مكبرات صوت، ولكن، فى هذه الحالة، ينبغى أيضا الحصول على تصريح كتابى مسبق من الأوقاف باستخدام الميكروفونات خارج المسجد. تعليمات وزارة الأوقاف تزامنت مع تعليمات مماثلة أصدرتها السعودية تمنع استخدام مكبرات الصوت الخارجية فى صلاة التراويح فى مساجد الفروض، وتقصر استخدامها على الجوامع. ما فعلته الأوقاف المصرية هو عين الصواب، وصحيح الدين، ويا حبذا، لو تم تطبيق هذه التعليمات بدقة وعناية وحزم خلال شهر رمضان المبارك، ويا حبذا أيضا، لو تم تخصيص غرف عمليات بالوزارة وخط ساخن لتلقى شكاوى المواطنين من حالات إساءة استخدام ميكروفونات المساجد، وأيضا تجاوزات بعض الأئمة والدعاة الذين يستغلون منابر رمضان فى توجيه رسائل سياسية كريهة وخبيثة، وإثارة قضايا خلافية، وموضوعات فرعية وتافهة. طبعا، عتاة المتنطعين انتفضوا، وصوروا الأمر على أنه حرب تقودها الدولة ضد الإسلام، وتضييق على الناس، وعلى بيوت الله، واعتداء على حرمة رمضان، وجمال رمضان، وأجواء رمضان. بعض هؤلاء تعهد صراحة بمخالفة التعليمات، والبعض الآخر اعتبرها غير منطقية، وغير عملية، لأن صوت تداخل الميكروفونات وأصحاب الأصوات النكرات فى بعض المساجد والزوايا تسعده وتعجبه، وهى جوهر الإسلام بالنسبة له! بالتأكيد أجمل ما يميز رمضان فى مصر تحديدا هو تداخل أصوات المساجد وقت الأذان، وهذا لا يعترض عليه أحد، وحق لا يمس، ولكن، استخدام الميكروفونات خارج المساجد فى التراويح والابتهالات والدروس، يعنى أن التداخل سيتحول إلى فوضي، وشيء منفر، للمسلم، وغير المسلم، للمصلى وغير المصلي، ومنع هذه الفوضى أولى وأجدي، ومن يصلى فى المسجد ليس فى حاجة إلى «إعلام» من فى الخارج أنه يصلي! أيضا هناك مساجد تسيء استخدام الميكروفونات بصورة مستفزة، فتصر على تشغيل القرآن والابتهالات قبل صلاة الفجر ب40 دقيقة على الأقل، فى رمضان وغير رمضان، رغم أن الاستيقاظ القسرى قبل الفجر بنصف ساعة ليس فرضا! أما بالنسبة للأذان نفسه، فأبسط ما يجب توافره فيه هو حلاوة صوت المؤذن، فكلنا يعرف أن أكثرية مساجد مصر للأسف الشديد استولى على ميكروفوناتها بعض الأدعياء وأصحاب الأصوات البشعة، وأحيانا «أى واحد معدي»، فتكون النتيجة أن يصل إلى أسماع الناس أذان لا يليق بمقام المسجد ولا بعبادة الصلاة، ولا بجمال الإسلام. وحتى المساجد التى أنعم الله عليها بمؤذن حسن الصوت، تجد القائمين عليها يصرون على تركيب ميكروفونات خارجية عالية الصوت جدا، بحجة توصيل صوت الأذان إلى أبعد مكان ممكن، مما ينجم عنه حرب ميكروفونات لا تليق بين المساجد، على طريقة «إنت تعلى .. أنا هاعلي»، مع إننا لسنا فى حاجة إلى هذه الحرب فى ظل انتشار المساجد ولله الحمد، وكذلك لوجود عشرات القنوات الفضائية والإذاعية التى تبث الأذان، فضلا عن أجهزة الهاتف المحمول المزودة بمواقيت الصلاة وصوت الأذان. قلنا مرارا إن الإسلام ليس لحية وجلبابا وطرحة وسواكا، وهو ليس ميكروفونا أيضا. وإذا كان رمضان شهر العبادة، فيكفى استخدام الميكروفونات خارج المسجد فى الأذان والإقامة وخطبة الجمعة، وإذا كان الميكروفون مطلوبا لإذاعة الأذان، فهذا لا يلزمنا أيضا بالاستماع إلى هواة وأدعياء وأصوات منفرة، بل ينبغى اختيار المؤهلين لذلك، أما عدا ذلك، فهو التنطع بشحمه ولحمه، ومن الأولى أن تركز المساجد على نشر القيم والأخلاق وصحيح الدين. كما ينبغى على أجهزة الدولة كلها اتخاذ إجراءات مماثلة لمحاربة التلوث السمعى بكل أنواعه، من كلاكسات وأفراح وموالد ومواكب، فيكفينا التلوث البصري، والأخلاقي، ولا ننس أن استخدام المكبرات المرتفعة لإذاعة الأغانى الوطنية خلال استفتاء الدستور الأخير أثار استياء كثيرين أيضا، ولم يكن تصرفا موفقا. .. تحية للأوقاف .. ورمضان كريم .. وهلك المتنطعون! لمزيد من مقالات هانى عسل