عقدت أخيرا قمة مبادرة الحزام والطريق التى تستضيفها الصين، وذلك فى إطار عدد من الفاعليات الدولية التى تنظمها بكين فى الكثير من المجالات ارتباطاً بتلك المبادرة المهمة، والتى تأتى القمة بالطبع على قمتها، ولكنها تمتد لتشمل العديد من مناحى الحياة ذات الصلة والتأثير فى عالم اليوم والتى تمس حياة البشر اليومية ما بين التجارة والاقتصاد والسياسات النقدية والطاقة والنقل والمواصلات والاستثمار فى البنية التحتية، بل وامتدت أيضاً إلى نطاق عريض لتشمل مجالات التبادل الثقافى والفنى على تنوعها واتساع دائرتها، وكذلك ميادين التعليم والبحث العلمى والتطور التكنولوجى والابتكار والإبداع بمجالاتها المختلفة، فعلى سبيل المثال يعقد فى توقيت قريب من توقيت القمة مؤتمر عالمى فى سياق نفس تلك المبادرة حول موضوعات الملكية الفكرية والإبداع، كما تعقد أيضاً دورة جديدة من دورات مهرجان بكين الدولى للسينما مع وجود محور خاص بدول مبادرة الحزام والطريق. والمقصود بالحزام هو الطريق البرى القديم لمبادرة تجارة الحرير، بينما المقصود بالطريق الطريق البحرى المستخدم تاريخياً فى إطار نفس فاعليات تلك المبادرة. ويجب أن نأخذ فى الاعتبار أن مبادرة الحزام والطريق هى واحدة من سلسلة ممتدة وغزيرة من المبادرات الطموح التى تبنتها الصين منذ انفتاحها على العالم الخارجى بشكل متزايد فى عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وتهدف جميعها من جهة إلى إحياء أهمية الصين ودورها المحورى التاريخى فى النظام العالمى فى ذاكرة الجميع، داخل وخارج الصين، ولكن أيضاً من جهة ثانية فلها هدف إثبات الدور الصينى الفعال والنشط على الساحة العالمية فى وقت أجبرت فيه ظروف داخلية أو إقليمية أو دولية دولاً أخرى من المفترض أن يكون لها دائماً حضورها اللافت على الساحة الدولية على خفوت هذا الدور أو الهدوء، بل وحتى الانزواء، ولو مؤقتاً، عن المشهد العالمي، ومن جهة ثالثة لهذه المبادرات أيضاً هدف رئيسى يكمن فى إحداث المزيد من تعزيز المكانة الصينية، سواء على الساحة العالمية، أو على الساحات الإقليمية ذات الصلة، خاصة، ولكن ليس فقط، على الصعيد الآسيوي. ومن هذه المبادرات على سبيل المثال مبادرة أخرى كان لمصر دور مهم فى مشاورات الصين لإطلاقها فى عام 1999، وهى مبادرة الصين / إفريقيا، والتى استضافت مصرأحد مؤتمرات القمة الخاصة بها فى مطلع الألفية الثالثة، كما ترأستها مصر أيضاً، بالمشاركة مع الصين، فى تلك المرحلة. وقد انطلقت مبادرة الحزام والطريق للمرة الأولى فى عام 2013 وهدفت إلى الاستفادة من مشروع طريق الحرير الشهير الكامن فى الذاكرة الصينية والآسيوية والعالمية، وهو مشروع يعود زمنياً وفق بعض التقديرات إلى نحو ألف عام مضى، وجرت من قبل محاولات جادة لإحيائه فى نهايات الربع الأول من القرن التاسع عشر. وتشمل المبادرة نحو سبعين دولة، منها من البلدان العربية مصر والسودان بالإضافة إلى غالبية البلدان العربية الواقعة فى قارة آسيا، وبما يغطى نحو 65% من سكان العالم كله، وكذلك يشمل نحو 40% من الناتج القومى الإجمالى لبلدان العالم ككل، وتهدف إلى تعزيز التبادل التجارى بين الصين والدول المشمولة بالمبادرة والتمهيد لإقامة تحالفات اقتصادية وتجارية فيما بينها، وبالفعل تحقق ارتفاع ملموس فاق ال 15% فى إجمالى قيمة ما تقوم الصين بتصديره للدول الشريكة معها فى المبادرة وارتفاع آخر يقترب من 30% لو أرادت الصين من تلك البلدان، كذلك عمدت المبادرة إلى اعتماد اليوان الصينى كعملة لتغطية المبادلات التجارية فيما بين الدول الأعضاء فى المبادرة، وكذلك لتمويل الاستثمارات، خاصة فى قطاعات البنية التحتية، فى تلك الدول وهو الأمر الذى لا شك أنه يعزز المكانة الدولية للعملية الوطنية الصينية. ويجب أن نعى أنه بالتأكيد أيضاً فللمبادرة، وبجانب أبعادها الاقتصادية وغيرها البادية بوضوح للعيان، أهداف جيو استراتيجية عديدة، فبدايةً فالصين تعى وزنها التاريخى فى العالم ودورها فى إثراء مسيرة الحياة الإنسانية على مدى قرون، خاصة عبر بوابة حضارتها القديمة، وما أسهمت به بشكل خاص فى تقدم الفكر الإنسانى وتطور علوم أساسية مثلت محور الازدهار للبشر على مدى قرون مثل الفلسفة وغيرها، بل إن الفضل للحضارة الصينية القديمة، بجانب الحضارة الفرعونية وحضارات بلاد ما بين النهرين فى اختراع الكتابة الذى بالتأكيد مثل ثورة نوعية آنذاك فى حياة الإنسان، وهى كلها أمور ترى الصين أن تأثيرها العالمى خفت لفترات بعد ذلك، ولأسباب داخلية وخارجية مختلفة ومتعددة ومتنوعة، ولكنها حريصة على استعادة الوهج كاملاً وعدم ترك أى فرصة لتأكيد مسعاها لتتبوأ مقعد الصدارة فى مختلف مناحى التقدم الإنساني. الأمر الآخر الذى يتعين الالتفات إليه هو أن جزءًا مهماً ومكوناً رئيسياً لكل المبادرات الصينية تجاه العالم الخارجى فى العقود الأربعة الماضية هو تقدير حسابات موازين القوة والتفكير الخاص بالعلاقات والتفاعلات والمنافسات الاستراتيجية مع أطراف وبلدان وتكتلات أخرى موجودة وفعالة ونشيطة فى العالم، سواء على الصعيد الدولى أو على الأصعدة الإقليمية، فى آسيا بصفة عامة، أو فى شرق وجنوب شرق آسيا بشكل أكثر تحديداً، فالصين مازالت طرفاً فى خلافات ذى طابع جيو استراتيجي، خاصة فى جوارها الإقليمى مثل خلافات حول حدود بحرية وملكية جزر فى بحر الصين الجنوبى مع كل من اليابان وفيتنام والفلبين، كما أن حساسيات قديمة وموروثة لها تأثيرها على علاقاتها مع اليابان، وهى معنية بشكل مباشر بالشأن الكورى ويمس أمنها القومى ما يحدث من تطورات فى شبه الجزيرة الكورية ومن تفاعلات بينها وبين العالم الخارجي، كذلك توجد علاقات مركبة لها مع روسيا ذات محطات تاريخية مهمة، بالإضافة إلى علاقاتها الشديدة التعقيد والتنوع مع كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية من جهة وأوروبا من جهة أخرى، ويجب حساب كل ذلك وأخذه بعناية فى الحسبان عندما توجد مبادرات صينية تهدف إلى بناء شبكة قوية من العلاقات والتحالفات الصينية مع أكبر عدد ممكن من دول العالم، بهدف إيجاد شبكة مصالح متبادلة قوية تكون أرضية صلبة لتبادل الدعم والتأييد فى المواقف والمحافل التى يحتاج كل طرف فيها إلى عون ومساندة الأطراف الأخرى الشريكة فى نفس البناء المؤسسى الدولى أو الإقليمي, وهكذا تتبدى بوضوح أهمية مبادرة الحزام والطريق الصينية وجذورها التاريخية البعيدة والقريبة، وبواعثها ودوافعها فى المرحلة التاريخية الراهنة، بالإضافة إلى الأهداف المتوخاة من وراء إطلاقها والعمل المستمر على تطويرها وتوسيع مسارها من الجانب الصينى بغرض تعظيم مردودها الإيجابي، كذلك يظهر جلياً ارتباطها بالكثير من الاعتبارات الجيو استراتيجية التى تهم الجانب الصينى على الأصعدة الإقليمية المتعددة ذات الصلة وأيضاً على الصعيد العالمي. لمزيد من مقالات د. وليد محمود عبدالناصر