لم تعد صفقة القرن أو الخطة الأمريكية لإحلال السلام فى الشرق الأوسط وتسوية الصراع العربى الإسرائيلى وهما أو شائعات من صنع وسائل الإعلام، كما كان البعض يظن، ولكن أصبحت واقعا يتحدث عنه الجميع باستفاضة فى الاجتماعات المغلقة وباقتضاب أمام الإعلام، وذلك لحين الإعلان عنها رسميا. واللافت للنظر هنا تصريحات جاريد كوشنر، صهر ومستشار الرئيس الأمريكى ترامب، التى أوضح فيها أن خطة السلام ستعلن بعدما تشكل إسرائيل حكومة ائتلافية، عقب فوز رئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو بالانتخابات، وبعد انتهاء شهر رمضان فى أوائل يونيو المقبل. لا يوجد تفسير لحشر شهر رمضان فى الموضوع إلا أن يكون هناك تخوف أمريكى من ردود فعل عربية وإسلامية سلبية تجاه هذه الخطة، قد يزيد من حدتها كشف تفاصيلها فى شهر رمضان الذى يسيطر فيه الوجدان الدينى على المسلمين بشكل كبير، ويجعلهم أكثر حساسية تجاه أى خطوة يعتبرون فيها مساسا بالمقدسات الدينية مثل المسجد الأقصي. وهذا التفسير يعنى أن الخطة الأمريكية قد تتجاهل حقوق العرب والمسلمين فى القدس، وما يزيد الشك أيضا حث كوشنر فى لقاء بمجموعة من السفراء الأربعاء الماضي، على التحلى بذهن منفتح تجاه المقترح المنتظر للسلام والذى سيتطلب تنازلات من الجانبين. وكذلك ما أكدته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، من أن خطة ترامب للسلام لن تتضمن إقامة دولة فلسطينية كاملة، وستعرض على الفلسطينيين نسخة محسنة من الوضع الراهن، مع إبراز الحكم الذاتى على حساب السيادة. وإذا كان الغموض مازال يلف تفاصيل خطة السلام الأمريكية، فإن المعلومات المتوافرة تشير بوضوح إلى أنها تقوم على أسس اقتصادية من خلال ضخ عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات والاستثمار القادمة من الخليج للفلسطينيين فى الضفة الغربيةوغزة وبعض الدول العربية، لإيجاد انتعاشة اقتصادية للفلسطينيين ومشروعات استثمارية ضخمة للشرق الأوسط تجمع العرب وإسرائيل معا، مع أنباء تتحدث عن طرح أفكار حول تبادل أراض لحل مشكلة الفلسطينيين فى الضفة الغربية. وقد حاول بعض المغرضين الزج بسيناء فى الموضوع، لكن مبعوث الرئيس الأمريكى للسلام فى الشرق الأوسط جيسون جرينبلات، نفى هذه الشائعات ووصفها بالكذب. والحقيقة أن الموقف المصرى واضح ومحدد، فلا تفريط فى حبة رمل مصرية واحدة لأى سبب من الأسباب، والتمسك بضرورة وجود حل عادل وشامل يؤدى إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية. ورغم عدم الإعلان رسميا عن صفقة القرن فإن الدكتور عبد المنعم سعيد أوضح فى حوار مهم للأهرام مع الأستاذ ماهر مقلد, أن خطوات تنفيذ الخطة الامريكية بدأت فعلا، وقال: إن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان هى رابع شيء واقعى على الأرض فى مشروع صفقة القرن، أول شيء كان نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أما الأمر الثانى كان موضوع انسحاب أمريكا من تمويل منظمة الاونروا لمساعدة اللاجئين، والثالث إغلاق مكتب منظمة التحرير فى واشنطن، وإلغاء القنصلية الأمريكية فى القدس التى كانت تتعامل مع الفلسطينيين. فالخطة الأمريكية بدأت على الأرض بالفعل، وقد يكون لها علاقة ببعض المشروعات الاقتصادية المستقبلية الضخمة التى سبق الإعلان عنها بين بعض دول الشرق الأوسط، فماذا عن الموقف العربى الموحد؟. فى اجتماعهم بالقاهرة أمس الأول، أكد وزراء الخارجية العرب، أن الدول العربية- التى قدمت مبادرة السلام العربية عام 2002 والمبنية على أساس القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام-لا يمكنها أن تقبل أى خطة أو صفقة لاتنسجم مع هذه المرجعيات الدولية. وأصبح معروفا أن عواصم عربية عديدة كثفت اتصالاتها مع واشنطن لتوضيح الموقف العربي، خاصة بعد أن أوقفت السلطة الفلسطينية اتصالاتها مع البيت الأبيض، وهناك اتصالات عربية أيضا مع بعض أعضاء الكونجرس، خاصة أن هناك اعضاء كثرا من بينهم مقتنعين بأن حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية هو الضمان لاستقرار الأوضاع فى الشرق الأوسط والحفاظ على أمن إسرائيل. لكن الأمر بحاجة إلى خطة تحرك عربية موحدة لمواجهة الموجة الآتية والتى قد تكون ضخمة، فتحرك الولاياتالمتحدة من أجل طرح خطتها للتفاوض، لابد أن يقابله طرح عربى محدد، من خلال المبادئ التى قامت عليها مبادرة السلام العربية والتى تتضمن ثلاثة مطالب محددة تنفذها إسرائيل، هي: الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة بما فى ذلك الجولان السورى وحتى خط الرابع من يونيو 1967، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضى الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو فى الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدسالشرقية. فى مقابل ثلاثة التزامات محددة تنفذها الدول العربية تتلخص في: اعتبار النزاع العربى الإسرائيلى منتهيا، والدخول فى اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، وإنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل فى إطار هذا السلام الشامل، وضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطينى الذى يتنافى والوضع الخاص فى البلدان العربية المضيفة. هذه الالتزامات المتبادلة المحددة ينبغى أن ترفقها الدول العربية بآليات تنفيذ واضحة، وضمان الالتزام العربى بهذا الموقف الموحد، بعد أن نجحت إسرائيل فى اختراق بعض الدول العربية البعيدة عنها وإقامة علاقات معلنة وغير معلنة فى مجالات مختلفة دون أن تقدم إسرائيل أى مقابل. كما أن المعركة المقبلة بحاجة أكثر من أى وقت مضى إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وقد بذلت مصر مجهودا كبيرا لإتمام المصالحة الفلسطينية، لكن عجز بعض الأطراف هناك عن إعلاء مصالح الشعب الفلسطينى فوق الحسابات الذاتية الضيقة، إلى جانب بعض التدخلات الخارجية، أدت إلى عدم إتمام عملية المصالحة حتى الآن. إن المصلحة العليا للشعب الفلسطينى تقتضى تشكيل حكومة وحدة وطنية والدعوة لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، والتوافق على موعد لإجراء انتخابات المجلس الوطنى الفلسطيني، وتجاوز التباينات الداخلية، وتنفيذ بنود الاتفاق الذى وقعته حركتا فتح وحماس بالقاهرة فى أكتوبر 2017. دون إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وبدء تنفيذ خطة تحرك عربية موحدة، ستتحول صفقة القرن بأكملها إلى حقيقة. لمزيد من مقالات فتحى محمود