عائدا من الإسماعيلية الساحرة بناسها وجمالها الفتان، هل تصدقون أنها المدينة الوحيدة فى مصر التى لا تعرف التوكتوك بفوضويته ورزالة سائقيه؟، معجزة خاصة نسجها أهل هذه المدينة التى أفسد جزءا من جمالها ثلاثة كبارى أسمنتية قبيحة على ترعة الإسماعيلية الشهيرة، كنت عائدا متفائلا من شباب وكبار مثل الورد، معلمين ومعلمات وصيادلة وأطباء وخطاطين، يستعين بهم مركز النيل للإعلام متطوعين فى تثقيف ونشر الوعى بين أهل المدينة وخاصة أطفالها وفتيانها الصغار، شباب وكبار يحبون مصر ويعملون فى صمت دون مليم واحد، وتسعدهم كلمة تقدير بأنهم أصحاب دور فى صناعة غد أفضل. وفى المساء كنت فى قاعة بدار الضيافة لجامعة عين شمس، بين كوكبة من شخصيات علمية وفكرية بارزة حاضرة فى صالون الجراح الثقافى الذى يشرف عليه أستاذ الجراحة العالمى نصير الفقراء الدكتور جمال مصطفى سعيد، وكان الملف المطروح على مائدة البحث فى غاية الأهمية:الانتماء والوطنية عند الشباب، ما الذى جري؟ وتباينت الآراء وتراوحت بين تأكيد أزمة واضحة فى الانتماء ونفى هذه الأزمة من أساسها، ألا يضحى شباب قواتنا المسلحة والشرطة بأرواحهم حماية للوطن من الإرهاب؟، فكيف تكون هناك أزمة؟، وهو ما أصر عليه أيضا بعض الشباب الذين تحدثوا، ولم يرددوا كلمة أزمة نهائيا، وأرجعوا الاختلاف فى التفسير إلى فجوة بين أجيال الأباء وأجيال الأبناء، وأن الأجيال القديمة غير قادرة على التواصل مع الشباب ولا تحاول أن تفهم لغتهم ولا تستوعب أفكارهم المتغيرة المتسارعة التى تلائم طبيعة عصرهم. واستغرق الحديث عن مفهوم العائلة وقتا طويلا،باعتبارها اللبنة الاولى فى الانتماء للوطن، ووصفوها بأنها أزمة مؤثرة بسبب الإنشغال الخاص الذى ضرب كل فرد فيها، خاصة بعد شيوع شبكات التواصل الاجتماعي، فتقطعت حبال الصلات القوية، وأنقلب الناس إلى كائنات تليفونات محمولة، كل فرد غارق فى تليفونه حتى النخاع، يعيش حياة افتراضية مع العالم أجمع، شبه معزول عن بقية عائلته، ناهيك عن افتقاد القدوة، وسوء الإعلام الذى أدمن تصوير السلبيات وتفخيم البلطجة، وقارن كثير من المتحدثين بين أفلام ومسلسلات وبرامج زمان ومثلها الآن فى الزى والحديث والتصرفات، ومالت الكفة إلى الماضي. لكن من أهم ما قيل هو غياب ثقافة العمل وإتقانه، وتأثيره على روح الجماعة والانتماء، مع تعددية نظم التعليم، فالتعددية تبنى حواجز نفسية وثقافية بين الشباب،كل حسب نوعية تعليمه وطبقته، بينما التعليم الموحد مثل التجنيد فى القوات المسلحة، يجمع الناس فى بوتقة واحدة مهما اختلفت المستويات الاجتماعية والظروف الاقتصادية. كان حوارا ممتعا ثريا، لكنه أثار فى نفسى تساؤلات كثيرة، أفرزتها المقارنة مع المجتمعات الغربية، وهى تعانى من تفكك اسرى كبير وتباعد يصل إلى حد القطيعة بين أفرادها، فهل لا يوجد انتماء فى بريطانيا أو هولندا أو فرنسا أو المانيا؟، وإذا عبرنا المحيط الاطلنطى إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى تبدو امتزاجا بين عناصر بشرية متعددة الأعراق والأجناس واللغات والثقافات، وإذا فتشنا فى تفاصيلها الاجتماعية، فأفلامها تمتلئ بالعنف والمجرمين والبذاءة وفساد الذوق فى الملبس وإعلامها الداخلى وبرامجها لا تترك شاردة ولا واردة دون تعرية على اللحم، وأذكر حين زرتها أول مرة فوجئت بحلقة من برنامج لا أذكر اسمه يستضيف أربع بنات اعتدى عليهن الأب لسنوات وانجب من إحداهن، والبنات يروين كل شئ بتفاصيل مخجلة، دون أن ترمش لأحدهن جفن أو تحمر خدودها، كأنها تتكلم فى أمور مستساغة، والجمهور داخل الاستديو ينصت كأنه يتفرج على مسرحية يصفق ويضحك، كما أن القدوة الأعظم هناك هى لاعبو كرة القدم الأمريكية والبيسبول وكرة السلة ونجوم السينما، وليس العالم الفيزيائى الفذ ألبرت أينشتاين ولا الروائى جون شتاينبك أو الكاتب المسرحى تينيسى ويليامز الحائز على جائزة بوليتزر ، ولا القصاص إدجار آلان بو..فهل تعانى أمريكا من أزمة انتماء بين مواطنيها؟ قطعا لا. يبدو أننا فى تفسير تصرفاتنا العامة نخلط بين أمرين: القيم العامة والقيم الشخصية. وإذا سألنا: ما الذى منع أزمة الانتماء من الظهور فى هذه المجتمعات التى لا تتحدث فى هذا الموضوع على الإطلاق؟، وهذا طبيعى جدا، فلماذا تتكلم فى قضية لا وجود لها؟! اذن ما الذى يجمع مواطنيها على الانتماء؟ أتصور أن العدالة، والمساواة، وغياب نظام الامتيازات والاستثناءات والشلة والواسطة والمحسوبية، والالتزام بتكافؤ الفرص فى الحياة والعمل والسكن والصعود السياسى والاقتصادى والاجتماعي، والقانون الصارم المرفوع على رأس كل مواطنيها من أكبر رأس إلى أبسط مواطن فيها، كلها تنسج خيوط الانتماء وتصنع منها ثيابا وطنية بكل واجباتها وحقوقها، وليس الأناشيد والغناء والشمس والنهر والأرض والتاريخ، وإن كانت عناصر مساعدة وليست مكونا أساسيا. وهنا لا أقصد أن القاعدة فى الغرب أو اليابان أو الصين أو الهند أو أمريكا اللاتينية ليس لها استثناءات، قطعا لها استثناءات هامشية غير مؤثرة على مسيرة المجتمع أو حركته. والانتماء إلى الوطن هو حالة شعور الإنسان بالانتساب العميق إلى وطنه فى علاقة إيجابية تصل إلى أعلى درجات الإخلاص، مترجما هذه العلاقة إلى سلوكيات يومية على أرض الواقع، كالحفاظ على نظافة الشوارع، والأماكن والمرافق العامة والمشاركة فى الأعمال التطوعية والخيرية، الالتزام بالقوانين والقواعد السلوكية، والانضباط فى العمل، واحترام مبادئ المواطنة..الخ ويقول كولن ويلسون فى كتابه الأشهر اللامنتمي: اللامنتمى إنسان يدرك ما تنهض عليه الحياة من أساس واه، ويشعر أن الاضطراب والفوضوية هما أعمق تجذرا من النظام الذى يؤمن به قومه، وعالمه يتميز بجو كريه جدا يعادى فيه الحياة. ويصفه كتاب مصريون فى مقالات كثيرة: اللاانتماء للوطن يعنى التمرّد على النظام والمجتمع واللجوء إلى العنف فى حلّ المشكلات، وعدم احترام القانون وإشعال فتيل الفتن، سواء كانت طائفيّة، أو حزبيّةٍ أو غيرها، وسرقة الأراضي، والاستيلاء على أملاك الغير والتستر على الخائنين والفاسدين. وما رأيته فى إسماعيلية يثبت أن أزمة الانتماء بالمعنى الذى قاله البعض فى صالون الجراح الثقافى بعيدة عن تعريف كولن ويلسون، فأغلب المُدربين المتطوعين كانوا شبابا من الجنسين، فى غاية الحماسة حين استدعاهم مركز النيل إلى لعب دور فى حياة مدينتهم وأهلهم.