أنا طبيب, ومتزوج منذ عشرين عاما، ولى ثلاثة أبناء وشقيقتان, وأقف الآن على أعتاب الخمسين من عمرى، وقد نشأت فى أسرة مكافحة, وأصبحت أنا وشقيقتاى ذوى شأن, ونحتل مراكز مرموقة، فشقيقتى الأولى تشغل وظيفة كبرى فى محافظة ساحلية, ويعمل زوجها فى الوظيفة نفسها، وتقيم شقيقتى الأخرى فى دولة أوروبية, وتعمل مع زوجها فى مجال الأبحاث الكيميائية, وحصلا أخيرا على جنسية هذه الدولة، وتوفيت والدتى منذ ما يقرب من ثمانى سنوات, ومنذ رحيلها يقيم والدى بمفرده بناء على رغبته, وقبل خمس سنوات بدأت الأمراض فى الزحف إلى جسده تدريجيا، فأصبح فى حاجة إلى عناية طبية مستمرة, ولذلك طلبت منه بإصرار أن ينتقل إلى بيتى للإقامة معى فوافق بعد إلحاح, ولم تمض أيام حتى تمرد على نمط حياتى، فهو ينام مبكرا, بينما يظل أولادى «سهرانين» أمام التليفزيون أو فى صالة المنزل إلى وقت متأخر, وتسبب له الأدوية التى يتعاطاها حالة من التوتر الشديد, وعندما تجيئه هذه الحالة يصبح شخصا آخر, وينالنا جميعا منه قدر كبير من الإهانات, والصوت العالى والعصبية الشديدة، ولا يجرؤ أحد على الحديث معه أو يحاول تهدئته، لا أبنائى، ولا زوجتي, وكل ما يحدث أنهم يحسون بالضيق قليلا, ولكنهم سرعان ما يتداركون الأمر، ويتفهمون أنه جدهم المريض، وليس على المريض حرج، ولا تتوقف تصرفات والدى عند هذا الحد, فهو كثير الطلبات, ويشغل كلامه الدائم أبنائى عن مذاكرتهم, ولا يستطيعون تجاهله أو الانصراف من أمامه قبل أن يتم حديثه, فيجلسون مضطرين لسماع قصصه التى لا يمل من تكرارها على مسامعهم.. ومع ذلك ضاق بحياته معنا وقرر العودة إلى منزله مرة أخري.. ولم أجد بدا من البحث عن حل آخر, وهدانى تفكيرى إلى أن أوفر له جليسا يعتنى به ويزوره باستمرار, ويعوضه عنا فلكل منا مشاغله ولا أستطيع أن أمكث معه وقتا طويلا لانشغالى بعملى وأطمئن عليه بالتليفون عدة مرات فى اليوم, وأزوره كل ثلاثة أيام لبعض الوقت، وتصورت أن فكرة الجليس سوف تؤتى ثمارها لكن يبدو أننى كنت متفائلا أكثر من اللازم.. إذ إن من وقع عليه اختيارى لهذه المهمة لم يعمل معه سوى أسبوعين فقط ثم اعتذر لى عن عدم الاستمرار فى هذه المهمة بسبب عصبيته الزائدة وطلباته الكثيرة, وفقدانه أعصابه فى بعض الأحيان وطرد من يجلس معه. وذات يوم ذهبت إلى زيارته فوجدت عنده صديقا قديما له من مدينة ساحلية وفى مثل سنه تقريبا, ولاحظت أن والدى مرتفع المعنويات وسعيد بوجود من يسمعه ويشاركه الحديث عن ذكريات الشباب والأحداث التى عاصراها معا، وسألت نفسى لماذا لا أبحث له عن جليس فى مثل سنه, ولكنى لم أجد, واقترح علىّ صديق لى أن أودعه دارا لرعاية المسنين, توفر له الرعاية الكاملة, ويجد فيها ضالته حيث يكون جميع النزلاء فى سن متقاربة. والحقيقة أننى لم أتحمس لهذه الفكرة, وأرى أن إيداعى أبى دارا للمسنين عيب كبير، فأعاد صديقى علىّ نصيحته مؤكدا أنه سوف يجد فى هذه الدار كل اهتمام, وأننى سأدفع مبلغا كبيرا كل شهر لها, ونصحنى باصطحاب والدى فى زيارة إليها ليقرر هو بعدها ما يريد. ونفذت اقتراحه, وطلبت من أبى أن يأتى معى لزيارة صديق لى يعمل بالدار فوافق, وهناك حدث ما توقعه صديقى ولاحظت انفراج أساريره, وأبدى انبهاره بالمستوى الراقى للدار, ووجدته هو الذى يطلب منى أن أحجز له غرفة بها لكى يكمل باقى حياته وسط أناس فى مثل سنه يرتاح إليهم ويأنس بهم.. وفى اليوم التالى أتممت كل الإجراءات ولا تتصور مدى السعادة التى بدت عليه وكأنه طفل ذاهب إلى رحلة مدرسية، وعدت من عنده وأنا مرتاح البال وأمسكت بسماعة التليفون لأبلغ شقيقتىّ بالخبر السعيد, فإذا بهما تصبان علىّ سيلا من الهجوم وتصفانى بأننى ابن عاق رمى والده فى دار المسنين بعد كل هذا العمر, ولم تفلح محاولاتى لكى يعدل أقاربى عن فكرتهم.. لماذا؟ لأنهم متأثرون بصورة المسن الذى يلحقه أهله بدار المسنين فى الأفلام والمسلسلات التليفزيونية القديمة؟! يا إلهى ما هذا التفكير؟.. لقد أصبحت فى نظر المجتمع والمحيطين بى إبنا عاقا ناكرا للجميل وعاتبتنى عمتى وقالت لي: إذا لم تتحمله دعه يعش معى أنا وأولادى وأمام الضغوط المتتالية ذهبت إليه ورجوته أن يعود معي, وقلت له إننا سنوفر له حياة أفضل مائة مرة من التى يعيشها فى الدار.. وأننا سوف ننفذ كل طلباته, لكنه رفض بشدة, بل ونهرنى أمام الجميع فخرجت من عنده أتصبب عرقا, وأبكى بحرارة على نصيبى وظروفي. وهكذا عدت إلى البيت أجر أذيال الخيبة, فوجدت الأسرة كلها فى انتظارى فرويت لهم ما حدث وطلبت منهم أن يزوروه ويتأكدوا من كلامى وبالفعل فى الصباح الباكر كان الجميع فى حجرته بالدار.. وحاولوا أخذه بكل الطرق لكنه أصر على موقفه.. فالتفتوا إلىّ واتهمونى بأننى حولت حياته إلى جحيم فقرر الهرب منى والجلوس مع الغرباء! ومع الأيام بدأت ألاحظ نظرات غريبة ممن حولي.. نظرات تتهمنى بالعقوق والتقصير فى حق من ربانى وجعلنى رجلا.. نظرات تقتلنى وتحيل حياتى إلى جحيم.. بل إن منهم من قال إن مكافأة نهاية الخدمة التى أعطيتها لوالدى هى إلقاؤه فى دار للمسنين. إننى أريد أن أسألك: هل أنا عاق لوالدى حقا, ثم ما الذى أستطيع أن أفعله فأصبح بارا به فى نظر الناس ولا أغضبه فى نفس الوقت؟.. لقد فوضت أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد.
ولكاتب هذه الرسالة أقول: من حق أبيك عليك أن توفر له كل سبل الراحة, وهو فى هذه المرحلة المتقدمة من العمر, ومن الواجب الذى لا جدال فيه تجاهه أن تسعى قدر جهدك إلى أن يعيش بينكم, فتشعره وتشعر معه بالدفء الأسري, ويتعلم أبناؤك معنى الأسرة, وتتواصل الأجيال فى مسيرة عطاء لا تنتهي. ومادمت قد حاولت ذلك ولم تفلح, وفضّل أبوك حياة دار المسنين على العيش معكم, فقد أصبح عليك دور جديد ينبغى أن تحرص عليه, إذ لا يكفى أن تدفع مصاريف الدار وتوفر له المتطلبات المادية التى يحتاج إليها, وإنما يجب ان تتواصل معه بالزيارات, وأن تصطحب أولادك إليه مرة كل أسبوع, وتدعوه إلى زيارتكم والمبيت معكم ولو مرتين فى الشهر.. فيجتمع الشمل وتصفو النفوس, وتسير عجلة الحياة. تخيل ياسيدى اليوم الذى ستصل فيه إلى هذه السن, ويأخذك أولادك إلى هذه الدار أو غيرها, وقل لى كيف سيكون شعورك وقتها؟! ألن تتذكر ما قدمته لهم طوال حياتك ثم إذا بهم يتخلون عنك؟. صحيح أنك فعلت ما فى وسعك لإرضائه, ولست عاقا أبدا بعد محاولاتك المستميتة معه للبقاء بينكم.. لكن الصحيح أيضا أنك فعلت ذلك للتخلص من كلامه الدائم وطلباته الكثيرة على حد تعبيرك التى تشغل الأبناء عن المذاكرة. لقد أوصانا الله سبحانه وتعالى ببر الوالدين, وشرح لنا طريقة معاملتهما فى الكبر, لدرجة أنه أمرنا عز وجل, بألا نقل لهما مجرد أف التى قد تخرج عن الإنسان رغما عنه فى حالة الضيق والضجر.. نعم إلى هذه الدرجة يوصينا الحق سبحانه وتعالى بآبائنا وأمهاتنا.. وعلينا أن نضع دائما هذا الأمر الإلهى نصب أعيننا, وندرك تماما أننا كما ندين ندان. وأن الأيام تدور, وسوف نشرب من نفس الكأس التى نسقيها لهم. ما أكثر الأبناء العاقين الذين لا يدركون صنيع آبائهم إلا بعد فوات الأوان فاحذر أن تقع فى هذا المحظور, وواصل سعيك معه لكى يحس بالأمان والطمأنينة, ويمكنك أن تقتسم مع شقيقتيك الزيارات له, وأن ترتب مع باقى الأهل مسألة التواصل معه. أما كلام الناس فلا طائل منه, ولا تدعه يؤثر فيك مادمت تعامل أباك بما يرضى الله.. أسأل العلى القدير أن يهديك إلى الطريق المستقيم, وأن تكون مكافأة نهاية خدمتك هى نفس مكافأة نهاية الخدمة التى تقدمها لأبيك، والله المستعان.