كنت أُتابع بعض الصحف العربية قبل زيارة الرئيس الأخيرة للولايات المتحدة ورصدت فيها اتجاهين رئيسيين أولهما يرتبط بالاتجاهات المحبة لمصر والمقدرة لدورها العربى وكان يشوبه إشفاق على الرئيس لصعوبة مهمته إذ تتم الزيارة فى وقت صعب بكل المقاييس عقب الاعتراف الأمريكى بالسيادة الإسرائيلية على الجولان وقبيل الإعلان عما يُسمى صفقة القرن التى لا يوجد شك فى انحيازها الفادح لإسرائيل ناهيك باستمرار الجهود الأمريكية لتشكيل ما يُسمى الناتو العربى، وهى تسمية فاسدة لفكرة أكثر فساداً، أما الاتجاه الثانى فأصحابه من الكارهين لمصر ونظامها وقيادتها وكان ينضح بتشفٍ مسبق فيما ستؤول إليه الزيارة على نحو يفضح عجز السياسة المصرية الخارجية وتبعيتها، ورغم ثقتى فى هذه السياسة فى ظل الظروف المعقدة المحيطة بها فقد أصابنى بعض التوتر ليس توقعاً لمكروه وإنما تقدير للصعاب فمصر تتعامل فى هذه الزيارة مع القوة الأولى فى العالم وتحرص على استقرار علاقتها معها فى ظل السياسة الراهنة لرئيسها الحالى الذى لا يتردد فى تبنى أكثر المواقف صراحة وأكثرها تعارضاً مع المصالح العربية وفى إهانة حلفائه الكبير منهم قبل الصغير. تابعت الزيارة وتوقفت أمام مواقف الرئيس المعلنة من ثلاث قضايا مهمة: الصراعات الدائرة فى بعض الدول العربية- الصراع العربى-الإسرائيلى- ما يُسمى الناتو العربى. فى القضية الأولى تمسك الرئيس بالسياسة المصرية الصحيحة التى لم تحد عنها يوماً رغم ما سببته أحياناً من مشكلات فى علاقة مصر ببعض أصدقائها والمتمثلة فى دعم الدولة الوطنية العربية والحلول السياسية للصراعات الدائرة فوق أرضها والتصدى للإرهاب الذى ينخر فى عظامها، وفى الثانية جاء التعبير عن موقف الرئيس بما نصه: مصر ستظل داعمة أى جهد مخلص يضمن التوصل لحل عادل ودائم للقضية الفلسطينية استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية ومرجعياتها وحل الدولتين وما تضمنته المبادرة العربية على نحو يحفظ الحقوق الفلسطينية الأمر الذى من شأنه صياغة واقع جديد بمنطقة الشرق الأوسط يحقق تطلعات شعوبها فى الاستقرار والبناء والتنمية والتعايش فى أمن وسلام. ويدرك من يتابع التسريبات عن صفقة القرن أن وجهة النظر هذه على طرف نقيض معها، أما فى القضية الثالثة فقد أشار ترامب إلى أنه يعمل على تعزيز شراكة بلاده مع مصر وتشجيع الاستقرار الإقليمى وتحقيق التقدم فى التحالف الاستراتيجى الخاص بالشرق الأوسط، أما الموقف المصرى فكان الإدلاء بعبارات عامة عن الشراكة الاستراتيجية وتعزيز آليات التعاون، وفيما بعد أفادت تقارير صحفية بانسحاب مصر من جهود إنشاء التحالف الاستراتيجى فى الشرق الأوسط وشهرته الناتو العربى، ولم يصدر أى نفى رسمى مصرى لهذه التقارير. كان رأيى دائماً أن أفضل ما فى التجربة المصرية بعد يونيو2013 هو سياستها الخارجية التى كانت تُدار فى ظل أصعب الظروف أمنياً واقتصادياً وسياسياً ومع ذلك كانت لها رؤيتها الواضحة النابعة من مصالحها الوطنية، وتمثلت هذه الرؤية فى أبعاد أساسية أهمها الدفاع عن كيان الدولة الوطنية العربية ضد محاولات تفكيكها باعتبار ما ستؤدى إليه من فوضى شاملة ومزيد من تفاقم الإرهاب فى المنطقة وتداعيات هذا كله على الأمنين المصرى والعربى، وقد سببت هذه السياسة لمصر مشكلات مع أقرب الأصدقاء لكنها سهلت لها تبنى مواقف متماسكة وفاعلة من الصراعات الدائرة على الأرض العربية، وجاء البعد الثانى تعزيزاً واضحاً للقدرة العسكرية المصرية وانعكاساً لإدراك التهديدات غير المسبوقة للأمن المصرى من الاتجاهات كافة، وأهمية هذا التعزيز أنه يوفر المصداقية للمواقف المصرية الحازمة الفعلية والمعلنة تجاه حماية الأمنين المصرى والعربى، ويتمثل البعد الثالث فى السعى لإحياء الدور الإقليمى المصرى الذى غاب طويلاً فى حقبة الركود والتراجع، وإذا كانت السياسة المصرية تجاه الصراعات الدائرة على الأرض العربية والتصدى للإرهاب ووقف مد ما يُسمى تيار الإسلام السياسى قد تكفلت بإعادة الفاعلية لدور مصر العربى فإن جهوداً واعية حثيثة اتجهت لإفريقيا نقلت مصر من دولة ذات شبكة ضعيفة للعلاقات مع الدول الإفريقية منبوذة من الاتحاد الإفريقى بعد أن كانت قائدة لحركات التحرر الوطنى فيها إلى دولة ذات سياسة إفريقية شاملة وفاعلة لا تتوقف عند المستويات الرسمية وإنما تتجه للشعوب قدر طاقتها، وكم تسعدنى عودة الوجوه السمراء إلى الظهور بكثافة فى جامعة عريقة كجامعة القاهرة بعد أن كان نادراً لعقود سابقة، وكم أسعدنى مغزى التسلسل الذى تمت فيه زيارة الرئيس للولايات المتحدة، فقد بدأ بزيارة لدولة إفريقية وانتهى بزيارة إفريقية أخرى والرسالة واضحة، وأخيراً يجىء مبدأ التوازن والتنوع فى السياسة الخارجية المصرية، وإذا كانت هذه السياسة حريصة على استقرار علاقتها بالولايات المتحدة وتعزيزها فإنها حريصة بالدرجة ذاتها على تنويع شبكة علاقاتها الدولية إدراكاً لأهمية الحفاظ على حرية الحركة المصرية وتعزيزها، وإن نظرة واحدة لهذه الشبكة التى تحتل فيها دول كروسيا والصين وألمانيا وفرنسا وغيرها مكانة لافتة تُظهر مدى النجاح فى تحقيق هذا الهدف، وقد توقفت أمام الرسالة التى بعث بها خمسة عشر عضواً فى مجلس الشيوخ الأمريكى لوزير خارجيتهم يعبرون فيها عن دعمهم القوى الشراكة مع مصر لكنهم يبدون فى الوقت نفسه قلقهم من تعميق العلاقات المصرية-الروسية بما فى ذلك تواتر أنباء حول احتمال شراء مصر مقاتلات سو-35 بنحو مليارى دولار، وطالبت الرسالة بومبيو بالإعراب عن قلقه من تعميق علاقة مصر بالكرملين بما فى ذلك القرض الذى قدمته موسكو لبناء المحطة النووية فى الضبعة والعمل على إعادة تقييم هذه القرارات التى تخاطر بجعل مصر تعتمد على روسيا مرة أخرى، وعلى الرغم من أن هذه الرسالة تعبر عن رأى أقلية من أعضاء المجلس فإنها من وجهة نظرى خير شاهد على نجاح سياسة تنويع الشركاء المصرية. لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد