تعطلت الطابعة فى البرلمان البريطانى فى ويستمنستر فى أسوأ وقت ممكن. فالنواب كانوا يناقشون مشروع قانون تقدمت به إيفيت كوبر النائبة عن حزب العمال «يقيد يد» رئيسة الوزراء تيريزا ماي، ويعطى للبرلمان الكلمة الفيصل فى طلب تأجيل البريكست ومدة ذلك التأجيل. لم يكن بيد كل النواب نسخة من مشروع القانون، فجلس بعض النواب معا يقرأون من نسخة واحدة كانت بيد أحد النواب المحظوظين. وبعد نحو 7 ساعات من المداولات الماراثونية فى مجلس العموم، صوت 313 نائبا لصالح مشروع القانون، مقابل 312 صوتوا ضده، أى أن ماى فقدت السيطرة على مسار تأجيل البريكست بفارق صوت واحد فقط. النتيجة كانت أكبر من احتمال النواب المؤيدين للبريسكت.صرخ بيتر بون النائب المحافظ، فى موجة من الغضب العارم، وهو يلوح بيده «أوقفوا هذا العبث». فيما لم يجد مارك فرنسوا النائب المحافظ سوى عبارة: «اغفر لهم أيها الرب، فإنهم لا يعرفون ما يفعلون». وكان ستيف بيكر النائب المحافظ على وشك البكاء، مجددا. هذا التصويت الذى كان على «حد سكين» كما يقولون يوضح حجم الانقسام فى بريطانيا بسبب البريكست بعد نحو 3 سنوات من ذلك التصويت الشهير فى 23 يونيو 2016. فبريطانيا ما زالت متخبطة بشكل يائس إزاء البريكست. وفى تخبطها تجرأ البعض ممن ليس لهم أى باع فى هذا الملف مثل دونالد ترامب جونيور، ابن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، على كتابة مقال «ينصح» فيه بريطانيا بأن تتبع نصائح أبيه. لا يتذكر كثير من البريطانيين ماذا كانت نصيحة الرئيس ترامب لتيريزا ماى عندما التقاها فى لندن العام الماضي، لكن بعض أقوياء الذاكرة يتذكرون أنه نصحها ب«رفع قضية أمام المحاكم الدولية» على الاتحاد الأوروبي. ولو لم يكن البريكست متعلقا بأرزاق عشرات الملايين فى بريطانيا وأوروبا لكانت هذه النكتة تستحق ضحكا هيستيريا. لكن على الأقل لدى ترامب فكرة عما كان سيفعله هو إزاء البريكست. أما بريطانيا، فليست لديها فكرة حتى الآن، فالاستقطاب السياسى غير مسبوق. الاسبوع الماضي، قارن جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية فى مؤتمر صحفي، بين أبى الهول المصرى والبرلمان البريطاني، موضحا: «إذا قارنا أبا الهول وبريطانيا العظمي، فإن أبا الهول سيبدو وكأنه كتاب مفتوح». النهل من التاريخ المصرى القديم ومقاربته مع البريكست لم يقتصر على يونكر، ففى مقالته فى «ديلى تليجراف» الاسبوع الماضي، أطلق بوريس جونسون وزير الخارجية البريطانى السابق صيحة مدوية «أطلقوا سراح شعبي»، موجها انتقادات لاذعة ل»فرعون» الاتحاد الأوروبي، الذى لا يريد أن يطلق سراح الشعب البريطاني. وقال جونسون إن صيحته هى صيحة النبى موسى فى وجه الفرعون العنيد. لكن البعض لم يفته أن يذكر جونسون بأن «موسى أخذ شعبه 40 عاما فى التيه ومات قبل أن يصل إلى أرض الميعاد». فهل يكرر التاريخ نفسه وتدخل بريطانيا التيه، ويموت أولياء البريكست قبل أن تصل للأرض الموعودة. الأجواء الدرامية فى بريطانيا ولغة الخطاب والتشبيهات والمداولات الماراثونية فى البرلمان حتى الساعات الأولى من الصباح، جعلت قادة الاتحاد الأوروبى «يدمنون» مشاهدة هذا المسلسل البريطانى المثير. فانقلاب معسكر البريسكت الخشن على تيريزا ماى يشبه مسرحية «يوليوس قيصر»، فهى تنظر للطعنات على ظهرها وهى لا تدرى لمن تقول «حتى أنت يا بروتوس». هل تقولها لبوريس جونسون أم لدومنيك راب أم لجاكوب ريس موج أم ستيف بيكر أم أيان دنكان سميث؟ فالجميع بروتوس. أما حديث الوحدة الوطنية، الذى أطلقته ماى قبل أسبوع واحد فقط من موعد السقوط من على حافة الهاوية، مع زعيم المعارضة جيرمى كوربين فهو يشبه مسلسل «لعبة العروش»، فكل طرف لديه أجندته الخفية، وما يظهر فى العلن غير ما يحدث فى الخفاء. وحث لقاؤهما البعض على طرح سؤال ملح وهو: هل يمكنك تعريف الجحيم السياسي؟ والإجابة أنه «ماى وكوربين فى غرفة واحدة يتظاهران بانهما يبحثان عن حل وسط للبريكست، لكن فى الحقيقة كلاهما يفكر فى طريقة لتقويض الآخر». كل هذا العبث لم يكن يحتاج إلى بهارات إضافية، ومع ذلك أتت البهارات من مكان بعيد وهو افغانستان، وذلك عندما تسرب فيديو لمجموعة من الجنود البريطانيين يتدربون على إطلاق النار على صورة كبيرة الحجم لجيرمى كوربين، ما دعا الحكومة لانتقاد الفيديو بوصفه «خطير وغير مقبول إطلاقا»، فيما فتحت وزارة الدفاع البريطانية تحقيقا. لا عجب أن يقول أحد أبرز مفاوضى البريكست فى البرلمان الأوروبي، جي فير هوفشتاد رئيس وزراء بلجيكا السابق، إن مشاهدة ما يجرى فى بريطانيا وجلسات البرلمان فى ويستمنستر أكثر إمتاعا من مشاهدة مبارات الدورى الإنجليزى الممتاز «بريميرليج»، لكنه استطرد:» المشكلة أن الجلسات تنتهى دائما بالتعادل. نحتاج إلى أن يخرج أى طرف منتصرا قبل أن نعطى بريطانيا وقتا إضافيا». لطالما شعرت بريطانيا بالفخر لقدرتها على الضحك وسط الأزمات. لكن أزمة البريكست تختبر حتى تلك الحكمة التقليدية. ويزيد الأمر سوءا أن الكبرياء الإنجليزى المعروف بات على المحك بعدما تحولت بريطانيا ل»مضحكة العالم» بسبب الفشل الذريع وسوء التعامل المذهل مع ملف البريكست. وقد آن الآوان أن يضحك الأوروبيون على بريطانيا وهناك نكات كثيرة كاشفة. إحداها أن طائرة تحمل ثلاثة أسبان وثلاثة فرنسيين وبريطانيا واحدا سقطت فى المحيط ثم وجد هؤلاء أنفسهم على جزيرة. مرت عدة أشهر، قتل خلالها أحد الأسبان منافسه ليتزوج الأسبانية الجميلة، فيما بنى الفرنسيون الثلاثة كوخا وعاشوا فيه معا، بينما البريطانى ما زال ينتظر شخصا يقدمه رسميا للآخرين. نكتة ثانية تقول: كيف تصف رجلا وسيما حسن المظهر فى وسط لندن؟. الإجابة: سائح. وكيف تصف امرأة جميلة أنيقة الملبس وسط لندن؟ أيضا سائحة. نكتة ثالثة تقول إن تيريزا ماى حذرت حزب المحافظين: يجب أن نتحد وإلا سيحكم علينا التاريخ بقسوة. ليرد عليها أحد النواب:»لكن البريكست يعنى أننا من سيضع الأحكام». ونكتة رابعة تسخر من أن «الإنجليز ليسوا شعبا روحانيا... لذا اخترعوا لعبة الكريكيت لتقريب فكرة الخلود إليهم». (الكريكيت لعبة مملة جدا وطويلة وتستغرق أياما للحسم). ونكتة خامسة تقول: «أنا لا أخاف من البريكست، فلن يمكنهم طرد جميع الألمان من بريطانيا لأن هذا يعنى أن العائلة المالكة ستضطر إلى المغادرة أيضا». (العائلة المالكة فى بريطانيا من جذور ألمانية). لكن وبرغم تلك اللحظة المعتمة فى تاريخ بريطانيا، لا يجب أن ننسى فضل بريطانيا على العالم. يكفى جورج برنارد شو، و جورج اوريل، وويليام شكسبير، فهو من أوجد القاموس الإنجليزي. وبريطانيا ما زالت تقدم للعالم كلمات جديدة فى هذا القاموس واخرها كلمة «بريكست» وهى «فعل» يعنى هؤلاء الذين يلوحون بالخروج، لكنهم يؤجلون الخروج مرة تلو الأخرى كلما حان موعده.