الجريمة الإرهابية النكراء التى ارتكبها الأسترالى السيئ الذكر، فى مسجدى مدينة كريس تشيرش فى نيوزيلندا، ليست على ما يبدو جريمة فردية، وذلك لا يعنى بالضرورة اتهام شعب أو جماعة بكاملها بالمشاركة فى ارتكابها، بل يعنى أن المناخ الذى أفضى إلى وقوعها يمثل حالة غربية عنصرية، نسقا فكريا وسياسيا يمينيا متطرفا وعنصريا، يكتسب المزيد من الأنصار والمريدين والممثلين فى العديد من الدول الأوروبية ومؤسساتها السياسية وكذلك العديد من الحركات الاجتماعية والسياسية فى الكثير من بلدان أوروبا ألمانياإيطالياوفرنسا وغيرها. لم تكن هذه الجريمة الإرهابية وليدة اللحظة أو العفوية أو المصادفة، كما أنها لم تترتب على حادث معين جمع بين صاحبها وبين الضحايا الأبرياء، بل كانت مخططة ومعدة سلفا، بل استغرق الإعداد لها عمليا عامين كاملين, انطوى الإعداد لها خلال هذه الفترة على عمليات محددة, الحصول على رخصة شراء الأسلحة المستخدمة، وانتقاء مسرح الجريمة، وإعداد تقنية البث المباشر للصور، ونشر البيان الذى أعده القاتل، وإرساله إلى العديد من المسئولين قبل دقائق من تنفيذه العملية المقززة. انتقاء مسرح الجريمة فى مسجدين بمدينة كريس تشيرش فى نيوزيلندا، لم يكن عشوائيا بل مقصود بعناية، أى أن الرسالة التى حملتها هذه الجريمة تقول إنه ليس ثمة مكان آمن أو هادئ، يمكنه النجاة من البديل العظيم أى إحلال الشعب الأوروبى الأبيض بالمهاجرين المسلمين والملونين وغيرهم، وأن عملية الإحلال الديمجرافية مستمرة ومتقدمة حتى فى تلك البقعة النائية، التى تحيط بها مياه المحيط من كل جانب، وبالمثل فإن هذه الرسالة تنطوى على تحذير المهاجرين والذين يزمعون الهجرة من بلدانهم، بأنهم ليسوا فى مأمن من العقاب العنصرى الأبيض مهما يكن موقع المكان الذى يختارونه للهجرة. على الصعيد العملى الذى سبق تنفيذ هذه الجريمة بدا وكأن هذا الإرهابى يقوم بعمل بحثي، لاستطلاع عمق ظاهرة البديل الأعظم والتأكد من صدق ما تناهى إلى أسماعه عن استفحال ظاهرة الهجرة وامتدادها إلى الدول الأوروبية، وجمع الأدلة والملاحظات العيانية المباشرة من الواقع, حيث سافر المجرم إلى العديد من بلدان أوروبا الشرقية كالمجر ورومانيا وبلغاريا وكذلك سافر إلى فرنسا وتنقل بين العديد من المدن الفرنسية، بسيارة استأجرها لهذا الغرض، ولاحظ وجود المهاجرين فى معظم المدن والقرى الفرنسية وخلص من ملاحظاته إلى أن فرنسا بلد محتل من قبل هؤلاء المهاجرين. الأحداث التى لعبت دورا مهما فى تشكيل خياله الإرهابى ومخيلته المريضة، يعددها المجرم باثنين أولهما مقتل فتاة سويدية صغيرة فى الحادية عشرة من عمرها فى هجوم بشاحنة فى مدينة ستوكهولم فى أبريل عام 2017، أما الآخر فيتمثل فى هزيمة مارين لوبن فى الدور الثانى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية وصعود إيمانويل ماكرون فى عام 2017. على ضوء هذين الحدثين، قرر الاستعداد للجريمة والعنف ضد المهاجرين المسلمين باعتبار ذلك الطريق الوحيد للحفاظ على العرق الأبيض والحيلولة دون الاختلاط العرقى وأن الحل السياسى لهذه المشكلة سقط بسقوط مارين لوبن فى الدور الثانى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وصعود ماكرون، ووقر فى قناعته أن لوبن غير قادرة على الحفاظ على العرق الأبيض وإنقاذ بلدها من الغزاة المسلمين، وأن الطريق الذى اختاره هو أى العنف والقتل ضد المهاجرين المحتلين الغزاة، هو الطريق الوحيد لنجاة العرق الأبيض. الإحالات المرجعية فى بيان الإرهابى الأسترالى مرتكب هذه المذبحة تتوزع على مجموعتين، الأولى تنتسب إلى القرون الوسطى والحروب الصليبية والحروب العثمانية الأوروبية، حيث كتب اسم شارل مارتل قائد الصليبيين فى معركة بلاط الشهداء عام 732 ميلادية، ضد الجيش الاسلامى الأندلسى، وكذلك أسماء أخرى لقادة أوروبيين فى معارك شهيرة ضد العثمانيين مثل سيباستيان نوفينى وهو جنرال إيطالى هزم العثمانيين فى معركة ليبانت عام 1571 ميلادية، وتمثل هذه الأسماء سرديات مهمة فى بنية الخطاب اليمينى العنصرى الحديث والمعاصر. أما المجموعة الأخرى من الإحالات المرجعية فتشير إلى أسماء العديد من رموز اليمين المتطرف الذين ارتكبوا اعتداءات وحشية، تسببت فى قتل مهاجرين مسلمين، يظهر من بينهم إندريس بريجاك اليمينى النرويجى المتطرف الذى يعتبره القاتل قدوة له. يمثل مفهوم الهوية فى البيان العنصرى للقاتل مفهوما بيولوجيا ثقافيا يتمركز حول العرق الأبيض وثقافته المعرضة للتآكل والزوال مع ارتفاع معدلات الهجرة وارتفاع معدلات الخصوبة لدى المهاجرين المسلمين، عن مثيلتها الأوروبية، ولا يكترث بشأن الإمبراطورية التى يسيطر العرق الأبيض عليها ويرى ضرورة تكوين جيب أبيض من فئات الواسب البيض الأنجلو ساكسون البروتستانتيين. يخص القاتل الأمريكى دافيد لان الذى ينتمى إلى النازية الجديدة بعدة إشارات مقتبسة من بيانه المعنون إبادة البيض خاصة كلماته: يجب أن نؤكد وجود عرقيتنا، ومستقبل أطفالنا البيض، ويشير إلى أوزوالد موسلى أحد رموز الفاشية البريطانية كشخصية تاريخية قريبة من معتقداته. ورغم أن خطاب اليمين المتطرف العنصرى الأوروبى يحاول الابتعاد عن «النازية» بسبب سوء سمعتها وقبحها، فإنه يستعين بالعديد من العناصر النازية مثل الشمس السوداء والمكون الإيكولوجى الذى يعنى طهارة الشعب الألماني، ويتجنب معاداة السامية باعتبارها البعد المحورى والمركزى فى العقيدة النازية. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد