جاءت الاعتداءات الأخيرة على مسجدين فى مدينة كرايست تشيرش النيوزيلاندية بواسطة أحد المواطنين البيض من أصحاب التوجهات اليمينية المتشددة أو المتعصبة أو المتطرفة، وما صاحبها وتلاها من ردود فعل وتفاعلات على مستوى الكثير من السياسيين والمثقفين والمفكرين والكتاب والإعلاميين والفنانين والمبدعين، سواء فى بلدان غربية أخرى أو فى بلدان عربية أو إسلامية أو من جانب جاليات عربية أو إسلامية تعيش فى بلدان غربية، ليعيد فتح العديد من الملفات التى كان البعض يتعامل معها على أنها مغلقة أو على الأقل يراهن على ذلك، كما جاءت تلك الاعتداءات لتدفع إلى الواجهة بتساؤلات عديدة تتصل بعلاقتها ليس فقط بالعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين من المواطنين أو المقيمين فى بلدان غربية على وجه الخصوص أو فى العالم غير الإسلامى ككل بصفة عامة. وعلى مدار عقود طويلة كان هناك تصاعد مهم وله ثقله ودلالاته فى صفوف قوى اليمين بشكل عام، واليمين الأكثر تعصباً وتطرفاً وتشدداً على وجه الخصوص، فى البلدان الغربية، ومن الصحيح أن هذا التصاعد كانت تتخلله أحياناً فترات جزر أو تراجع، ولكنها كانت فترات مؤقتة لم توقف هذا التصاعد أو تنجح فى ان تحد من غلوائه أو استمراره فى التحرك نحو أقصى اليمين، بكل ما يحمله ذلك من مواقف تتصف بتعصب شديد ضد الآخر ورفض كامل له ولما يمثله، كما كان هذا التصاعد يشكل بدوره نتاجاً طبيعياً ومنطقياً لعقود من عودة نغمات تنتمى إلى أشكال مختلفة من الفكر الفاشى إلى الظهور من جديد وتطور أنساقاً فكرية متسقة مع مرجعيات عقائدية ترفض المختلف، سواء كان من جهة الدين أو العقيدة، أو من جهة العرق، أو من جهة اللون، أو من جهة اللغة، أو من جهة الانتماء الوطنى والقومى والقاري، والنظر إليه باحتقار وتعال نظرة من علٍ، بل والانتقال من تلك المرحلة إلى مرحلة التطبيق الفعلى والتنفيذ العملى للنتائج المترتبة على هذه المعتقدات، ليس فقط على الصعيد الفكري، بل أيضاً التحول إلى رفض الوجود المادى لهذا المختلف والسعى إلى إنهائه، على الأقل داخل المجتمعات التى ينتنمى إليه هذا اليمين المتطرف. وتتعدد المرجعيات والجذور الأيديولوجية لهذه المواقف والمرتكزات الفكرية التى أنتجت على مدار العقود، ليس فقط هوساً متعصباً على الصعيد المعتقدى والنظري، بل ايضاً فرخت أعداداً من المستعدين للقيام بأعمال عنف وإرهاب ضد الآخر، وذلك بما لا يقل بأى حال من الأحوال من حيث المخاطر والنذر عما هو موجود ونما على مدار العقود أيضاً داخل صفوف البلدان العربية والإسلامية والجاليات العربية والإسلامية المقيمة خارج حدود بلدانها، سواء من حيث المنطلقات العقائدية والمقدمات النظرية أو من جهة الاستعداد الذهنى والوجدانى للإقدام على تنفيذ أعمال عنف وإرهاب يتصور القائمون عليها أنها تحقق أهداف أيديولوجياتهم، والتى تدخل ضمنها بوضوح أفكار من نوعية التطهير العرقى أو الدينى أو القومى أو الثقافى أو اللغوى أو غيره، وهى توجهات تؤدى فى المجمل إلى إنكار وجود التنوع ورفض الإقرار بالتعدد، أى إغماض العين عن سنة من سنن هذه الحياة، سواء من منظور الرسائل السماوية أو الأديان ذات المصادر الأرضية أو الأيديولوجيات التى ترفض أصلاً منطق الأديان وتنكره ولكنها ترفع راية النضال من أجل الوصول إلى العدل والحق والحرية. فعلى مدار العقود الماضية، وعبر هجرات من البلدان العربية والإسلامية إلى بلدان خارج حدود العالم العربى والإسلامى استقر أصحابها فى تلك البلدان، كان هناك من نجح فى تحقيق الاندماج فى المجتمعات الجديدة، حتى مع الاحتفاظ بهويته الثقافية والعقائدية الأصلية وكذلك الاحتفاظ بلغته الأم، ولكن كان هناك أيضاً من استفاد مما تتيحه هذه المجتمعات من حريات وحقوق ولكنه اتغلق على ذاته وأراد أن يعيد إنتاج نمط تفكيره ونمط حياته فى بلده الأصلي، حتى بما تحمله هذه الأنماط من عيوب وأوجه قصور ونقاط ضعف، وحال دون استفادته، هو وأسرته، مما تحمله المجتمعات الجديدة التى هاجر إليها من ثقافة ومنظومات قيمية بها بالتأكيد العديد من المزايا والجوانب الإيجابية، وقد كان لما تقدم دوره فى الحيلولة دون الاندماج الكامل أو حتى الجزئى فى بعض الأحوال لقطاعات من تلك الجاليات العربية والإسلامية فى مجتمعاتهم الجديدة، وهو أمر شعر به المواطنون فى تلك البلدان وأدى فى بعض الأحيان إلى حدوث حالة من الجفاء بينهم وبين تلك القطاعات من الجاليات العربية والإسلامية. وقد ازداد الأمر استعراراً وتضاعفت مخاطره بتبنى بعض أبناء الجاليات العربية والإسلامية فى تلك المجتمعات لأفكار متشددة من الناحية الدينية غير مقبولة أصلاً من جانب الغالبية فى المجتمعات العربية والإسلامية، التى جاءوا منها أو جاء منها آباؤهم، فما بالكم بالمجتمعات التى هاجروا إليها، سواء سعياً للحصول على فرص عيش أفضل أو للتمتع بالحقوق والحريات المتوافرة فيها. وسرعان ما تطور الأمر لدى هؤلاء أيضاً إلى تبنى أفكار انعزالية أو تكفيرية، ليس فقط تجاه المجتمعات الجديدة التى استقروا فيها، بل أيضاً تجاه قطاعات من الجاليات العربية والإسلامية التى استقرت فى تلك المجتمعات ممن رفضوا أفكار المجموعات المتشددة ودعواتها وحملاتها التجنيدية أو التعبوية، ثم حدث تحول نوعى آخر تمثل فى قيام عدد من هؤلاء من أصحاب طرح الانعزال وعدم الاندماج هذا فى سياق تنظيمات تتبنى العنف والإرهاب تجاه المجتمعات التى يعيشون فيها. وهكذا فإن تصاعد قوة اليمين على الطرفين واتجاه قطاع من هذا اليمين إلى المزيد من التصلب لم يفرز إلا تشدداً وتعصباً وتطرفاً لدى عناصر من هذا اليمين بما أجج مشاعر الكراهية وأجواء الحقد والاستبعاد تجاه الآخر وأوجد أجواءً ملبدة بغيوم التحفز والتربص من اليمين المتطرف لدى كل جانب، ومن ثم وجهت تلك التوجهات ضربة نافذة لثقافة التسامح وقبول الآخر، وكان من إفرازات هذه الحالة أعمال عنف وعمليات إرهاب هنا وهناك، مثل اعتداءات نيوزيلاندا الأخيرة، ويتبقى الأمل فى تلك القوى المتواجدة على الطرفين والتى لا تزال تتمسك بخيارات التعايش والتعاون والانتماء المشترك من جانب أبناء نفس المجتمعات أياً كانت خلفياتهم وانتماءاتهم الأصلية. لمزيد من مقالات د. وليد محمود عبدالناصر