أصبحت عملية الحصول علي مكان لركن سيارة بوسط القاهرة بمثابة البحث عن «إبرة في كومة من القش».. واحدة من كبرى المآسي اليومية تواجه الكثيرين ، فأما تخضع لقوانين السياس والبلطجية وتدفع «المعلوم» حسبما يفرضون عليك، أو تظل حائرا بسيارتك في شوارع القاهرة، أشكال ووجوه مختلفة تقف في الشوارع، وتحتل النواصي والمؤسسات المختلفة، ورديات بالليل وآخرون يواصلون النهار.. كل ما يفعلونه يشترون صفارة وسترة فسفورية اللون ويقفون بالتنسيق مع كبار المسيطرين علي الشوارع. لكي نفهم هذا العالم، ونعرف حقيقة ما يدور علي الأرض، فكرنا في إجراء التحقيق الصحفي بطريقة المعايشة والمغامرة... فلم يكن أمامي سوي ارتداء جلباب متواضع، وشراء صفارة وكاب و «شبشب» لزوم عمل هذه المهنة. في البداية تخوفت، لأن كل من يعملون بها بلطجية وشباب اعتاد بعضهم علي تعاطي المواد المخدرة، في حين أنني اكتشفت أن بينهم من يعملون بهذه المهنة بحثا عن لقمة العيش الحلال، وهؤلاء الذين كنت أقترب منهم واحتمي بهم. تحركت من »الأهرام« بصحبة زميلي المصور الصحفي محمد ماهر، وزميلي فرحات النجار أحد المسئولين بأمن المؤسسة وبدأت العمل بمهنة السايس فعليا بمنطقة رمسيس بمحيط قسم الأزبكية، حيث الزحام الشديد وتوافد الكثيرين علي قلب العاصمة، وهناك عرفت أنني يجب أن أعمل مساعد سايس. وخلال تنظيفها احدى السيارات في تمام الساعة الثامنة صباحا، كنت علي الجانب الأيسر من الشارع، وكان هناك أكثر من سايس، وأخبروني أنهم مقسمون إلي فترات صباحية ومسائية. عرضت عليهم أن أعمل بجانبهم لاحظت أن عددهم يصل إلي أكثر من عشرين سايسا تقريبا.. وعندما اقتربت من أحدهم رفض تماما أن أعمل معه علي الرغم أنني اختلقت قصة إنسانية مؤثرة، ورويت مشكلة اطفالي الأيتام عبد الرحمن وياسين ومنة الله وبسملة، الذين تتراوح اعمارهم من 4سنوات إلي عشرة، وأنني أعاني من المصاريف، وأقوم بتريبتهم بمفردي بعد وفاة والدهم، الذي كان يعمل نجارا ورزقه علي الله.. لذلك أبحث عن عمل شريف، إلا أنه رفض بشدة، وكان عنيفا جدا معي، معللا أن المكان ده مأجر من جانب محافظة القاهرة، وأنه سبق له سداد مقابل الإيجار، ورفض الافصاح عن مبلغ الإيجار موضحا أن المحافظة هي التي طلبت ذلك، لأن أي زيادة في الأموال ترجع للسايس وتكون من حقه، ثم انتقلت إلي الرصيف المقابل، وكان هناك اثنان من السياس محمد وسليم. وقفت، وطلبت منهما أن أعمل معهما في توقيف السيارات، أو أقوم بتنظيفها، فقالوا المكان مستأجر ومقسم من المحافظة، لكنهم تعاطفوا مع ظروفي وحالتي الصحية، حيث أشرت أنني مريضة قلب وسكر وضغط، فقام أحدهما باعطائي عشرين جنيها وطلبوا من الأفراد المتواجدين في المكان أن أبيع المناديل معهم، وطمأنوني أنهم سيتركوني استرزق بجانب عملي معهم كمساعد سايس مؤقتا لفترة محدودة، كانوا معي في منتهي الإنسانية، وبدأت عملي كسايس، فهناك نوعان من ساحات الانتظار للركنات، هناك من يدفع بالشهر 300جنيه، أو من يدفع باليوم نحو 20جنيها، فالمنطقة دائما مزدحمة بالسيارات، كان هناك نظرات تعجب واستغراب، لأن المنطقة لم يظهر فيها من قبل أي امرأة تعمل سايسا. في نهاية اليوم، الساعة الرابعة عصرا وقبل بداية الفترة المسائية واستلام السايس المسائي، حصلت علي ما يقرب من 150جنيها، هذه نسبتي من عمل السايس المساعد. في اليوم الثاني لجولة السايس اتجهنا إلي منطقة الأزهر، وتحديدا بجوار وخلف مستشفي الحسين، حيث يستوعب المكان مئات السيارات، ويقف به في الوردية أكثر من 30 سايسا وسايسة، كما أن المكان معروف بأنه به نشاط لترويج المخدرات والأعمال المنافية للآداب، وقفت في المكان والخوف يسيطر علي، فالمشهد مخيفا، وغير مريح، فمن بداية الشارع الخلفي للمستشفي، ومظاهر البلطجة تسيطر علي المكان من السيدات والرجال، خاصة المسئولين عن المنطقة، والشارع مقسم إلي عدد من الأماكن لساحات الانتظار، التي يحكمها الأباطرة، والسيدات تعمل في تركين الدراجات البخارية، وبيع الشاي والقهوة، أما الرجال فهم معنيون بركن السيارات وتقسيم الفلوس فيما بينهم، بعد أن يعطوها ل «الريس» الذين يطلقون عليه «اسم الرجل الكبير» «اللي مشغلهم» واسمه محمود الكبير. بعد ذلك خضت تجربة السايس في منطقة الحسين، بعد أن ادعيت مرض ابني بالمستشفي واحتياجي للمال، وإنه يعالج وأريد العمل لعدة ساعات يوميا، لأن مرض ابني خطير و مستمر، التقيت برجلين كبار السن تتراوح أعمارهما ما بين 70 و75عاما، في البداية رفضا ولكني انحنيت بشدة، وبكيت وتوسلت لهما، وتمسكت بالعمل، وبالفعل قمت بالتعامل مع سائقي السيارات، وأخذ مبلغا للركنة عشرين جنيها عن كل سيارة، وبعد عدة ساعات من العمل المتواصل وتنظيف السيارات، طلب مني أحدهما ويدعي الحاج سليمان الزواج، وبعد أن تحدث معي وسألني عن ظروفي طلب أن أعمل معه في ترويج المخدرات في آخر الليل، لأن المنطقة الخلفية لمستشفي الحسين بها الكثير من الخنادق السرية التي لا يعرفها أحد، وأيضا داخل الحارات، وأسفل العقارات المهدمة، وهنا رفضت بغضب وقلت له «لا سمح الله أنا عايزة أربي عيالي بالحلال»، وبعد هذه الكلمات طردني وقال لي «مالكيش عيش هنا»، وابتعدت خوفا مع فريق العمل بعد عدة ساعات، لدرجة أننا لم نتمكن من التقاط صورة بسبب البلطجية، وخوفا من افتضاح أمرنا. وتوجه أحد قائدى السيارات اخترنا مكانا آخر لانتظار السيارات في الحي الراقي «المهندسين» حول سور نادي الصيد، فلاحظنا أن المنطقة يحكمها عدة سياس جميعهم مستأجرون من محافظة الجيزة، أي أن المنطقة في قبضة يد المحافظة، ذلك بجانب أنني خضت التجربة بنفس طريقة، وخبرة الأمس، فلم يتعرض لي أي سايس معتقدين إنني مستأجرة جديدة للمكان، ذلك بالإضافة إلي أن سائقي سيارات المكان الراقي هم الذين يدفعون أكثر من المطلوب، عشرين جنيها علي الأقل أو عشرة جنيهات في دقائق، كما أن سائقي السيارات يحتاجون للأماكن والأمان لسياراتهم. وأثناء جولة البحث في أعماق وتفاصيل قضية السياس في الشوارع، لفت نظري أحدهم في منطقة الزمالك بالتحديد، ما بين ناديي الجزيرة والأهلي قبل مطلع كوبري 6 أكتوبر، ينادونه باسم الشيخ جمال السني، من الواضح أنه يعمل منذ سنوات طويلة في المنطقة، اخترقت هذا الرجل الذي روي لي، أنه يعمل في المنطقة منذ أكثر من عشرين عاما هو وإخوته الأربعة وزوجاتهم، حتي أن الأخ الأكبر توفي في مكان عمله بالشارع بعد تعرضه لحادث سيارة فائقة السرعة، وكان الرجل متسامحا، ووافق أن أعمل معه لبضع ساعات، في مقابل أن أحصل علي بضعة جنيهات في كل سيارة مع تنظيفها، وباح لي أن هناك كاميرات مراقبة أعلي عامود الكهرباء بناء علي طلب محافظة القاهرة لضبط السرقات أو خطف حقائب السيدات. الشيخ جمال السني كان يمسك بيده دفتر انتظار مختوما من المحافظة، وأكثر السيارات كانت ملتزمة بالدفع، وهناك من كان يدفع أكثر عندما وجدوا سيدة فقيرة علي باب الله تطلب المساعدة بالعمل من أجل تربية أطفالها الأربعة، وبعد يوم شاق انتهي بحصيلة زادت عن 200 جنيه، وخلاصة اليوم كانت مليئة بالمواقف الطريفة، فمثلا هناك من يعطيك وجبة، ومن جاء يطلب مني الذهاب معه للعمل بتنظيف الشقة، وكانت العروض سخية، ولفت نظري شباب يطلبون الخروج معهم، وعندما قلت لهم أنا بربي أيتام قالوا لي يومك بكام سنعطيكي قيمة اليوم ، لا أنسي أن كثيرين من السياس يتحدثون عن المزاج المخدرات والأعمال المنافية للآداب. انتهيت من جولاتي وذهبت لتغيير «زي السايس» وعدت لكي أقوم بجولة وأتحدث إلي بعض السياس في أماكن أخري بالسيدة زينب ووسط القاهرة، وفوجئت بهم يهربون مني ويرفضون الحديث مطلقا، ويقولون «إنتي عاوزة تسلمينا للشرطة» فقلت لهم انتوا بتعملوا حاجة غلط، فطلبوا مني الانصراف وأبلغوا زملاءهم، وتكرر هذا الحال مع كثيرين. بعد هذه الجولة سألت النائبة مني منير التي سبق لها أن آثارت قضية السايس بمجلس النواب، وطالبت باصدار تشريع.. قلت لها ماذا حدث في طلب الإحاطة؟ أجابت وهي منفعلة جدا: هناك مشروع مقدم من جانب نائب بلجنة الدفاع والأمن القومي، يتكلم عن تقنين أوضاع السياس، ولكني ضد هذه الفكرة مطلقا، أنا أؤيد وضع عدادات بالساعة في جميع شوارع القاهرةوالجيزة، لأنني علي يقين أن شغل السايس يشبه فرض الاتاوات، ومهما كانت درجة التحكم فيه لكنه اقرب للبلطجة، وفرض السطوة، وأيضا الأموال التى يحصلون عليها، من الأولي أن تدخل في خزانة الحي، لأن الشارع ليس ملكا لهم ، وبكل آسف نحن نمنحهم رخصة لذلك ولكنها للبلطجة، وفي حالة حدوث أي سرقة لا نجد مسئولا عن ذلك، أطالب بالحد من العمالة البشرية خاصة أننا لدينا اتجاه للتحول الي الحكومة الإلكترونية ، وخاصة تشغيل كل العاطلين الذين يمارسون أعمال البلطجة، فلدينا أربعة آلاف مصنع أتمني تشغيل العمالة بهم، ومنهم السياس والذين هم خريجو السجون، منعا لكل اعمال الفساد. وبسؤال أحد مسئولي محافظة القاهرة رد قائلا، إن المحافظة تحاول تشغيلهم سياس بعد تأجير بعض المناطق لهم حلا لمشكلة البطالة أو الحد منها، بدلا من التسول والسرقة ، ولو علي سبيل الحل المؤقت، بالإضافة إلي أن المحافظة بدأت بوضع كاميرات لمراقبتهم أثناء العمل بالشوارع والميادين . وطالب النائب محمد عطية الفيومي وكيل لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب، بتوافر عدد من الشروط في الأشخاص المؤهلين لحمل رخصة السايس، لأن أغلبهم لا يحملون رخصة، أي يعملون بشكل عشوائي، ولذلك يتعاملون بعنف مع سائقي السيارات، الأمر الذي تحول إلي فرض إتاوة أو مافيا للانتظار في المكان التابع للسياس، ويرجع السبب الرئيسي لانتشار ظاهرة السايس الي التكدس والزحام الرهيب، وعدم وجود جراجات عمومية للسيارات، فضلا عن كونها مهنة مجزية جدا، حيث يجمع بعضهم ما يقرب من ألف جنيه بالأماكن الراقية في اليوم الواحد ، ولذلك نطالب بإعادة التخطيط العمراني، وتوافر جراجات متعددة الطوابق، وأيضا أمام المحال، وفي الأبراج السكنية التي أدت إلي ظهور السايس في كل مكان، وكل شارع. فهل يعقل أن نذهب لشراء خبز بعشرة جنيهات ونعطي السايس مثلهما؟. أخيرا هل تتدخل الحكومة لحل أزمة المواطن والسايس؟ وهل تنتهي لعبة القط والفأر بين السايس والمواطن؟، وهل من الممكن أن يصدر قانون يحمي حقوق المواطن والشارع ؟. ومع احد السياس