7 أيام في مايو مدفوعة الأجر.. هل عيد القيامة المجيد 2024 إجازة رسمية للموظفين في مصر؟    تربي لوجه الله، إعلان وظيفة رسمية للعمل بجبانات أسيوط يثير الجدل ومتابعون: هيعيش على الصدقات    تراجع الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية السبت 20 أبريل 2024    عيار 21 يسجل الآن رقمًا جديدًا.. أسعار الذهب والسبائك اليوم السبت بعد الارتفاع بالصاغة    بعد انخفاض الأسعار.. أرخص سيارة هيونداي في مصر    أمريكا توافق على سحب قواتها من النيجر    فلسطين.. زوارق الاحتلال الحربية تطلق النيران تجاه شاطئ بحر مدينة رفح    حزب الله يستهدف 6 مواقع للجيش الإسرائيلي قرب الحدود اللبنانية    بايدن: إنتاج أول 90 كجم من اليورانيوم المخصب في الولايات المتحدة    رسائل نارية من المدير الفني ليد الزمالك قبل مواجهة الترجي التونسي في بطولة إفريقيا للأندية أبطال الكؤوس    بوسي تشعل حفل زفاف نجل محمد فؤاد: ابني هو اللي بيتجوز (فيديو)    فودة وجمعة يهنئان أسقف جنوب سيناء بسلامة الوصول بعد رحلة علاج بالخارج    الوداع الحزين.. ليفربول خارج الدورى الأوروبى    شعبة المخابز: مقترح بيع الخبز بالكيلو يحل أزمة نقص الوزن    الإفتاء: التجار الذين يحتكرون السلع و يبيعونها بأكثر من سعرها آثمون شرعًا    بيان عاجل من الجيش الأمريكي بشأن قصف قاعدة عسكرية في العراق    طريقة عمل تارت الجيلي للشيف نجلاء الشرشابي    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    الوزيرة فايزة أبوالنجا    ميدو يكشف احتياجات الزمالك في الميركاتو الصيفي    داعية إسلامي: خدمة الزوج والأولاد ليست واجبة على الزوجة    سفيرة البحرين بالقاهرة: زيارة الملك حمد لمصر تأكيد على التكامل الإستراتيجي ووحدة الصف بين البلدين    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي    GranCabrio Spyder| سيارة رياضية فاخرة من Maserati    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 20 إبريل 2024 بعد الانخفاض الأخير    نشرة منتصف الليل| الأرصاد تكشف موعد الموجة الحارة.. وهذه ملامح حركة المحافظين المرتقبة    ملف رياضة مصراوي.. إغماء لاعب المقاولون.. رسالة شوبير.. وتشكيل الأهلي المتوقع    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    بركات قبل لقاء الأهلي: مباراة مازيمبي وبيراميدز شهدت مهازل تحكيمية    يوفنتوس يواصل فقد النقاط بالتعادل مع كالياري.. ولاتسيو يفوز على جنوى    دوري أدنوك للمحترفين.. 6 مباريات مرتقبة في الجولة 20    "شقهُ نصُين".. تشييع جثة طفل لقي مصرعه على يد جاره بشبرا الخيمة (صور)    أهالى شبرا الخيمة يشيعون جثمان الطفل المعثور على جثته بشقة ..صور    ضبط نصف طن لحوم فاسدة قبل استعمالها بأحد المطاعم فى دمياط    بالأسماء ... ارتفاع ضحايا حادث تصادم بالدقهلية إلى 10 مصابين ومتوفى    "محكمة ميتا" تنظر في قضيتين بشأن صور إباحية مزيفة لنساء مشهورات    حريق هائل بمخزن كاوتش بقرية السنباط بالفيوم    وزارة الداخلية تكرم عددا من الضباط بمحافظة أسوان    بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    خالد منتصر: ولادة التيار الإسلامي لحظة مؤلمة كلفت البلاد الكثير    تجليس نيافة الأنبا توماس على دير "العذراء" بالبهنسا.. صور    إياد نصار: لا أحب مسلسلات «البان آراب».. وسعيد بنجاح "صلة رحم"    نسرين أسامة أنور عكاشة: كان هناك توافق بين والدى والراحل صلاح السعدني    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر| فيديو    انطلاق حفل الفرقة الألمانية keinemusik بأهرامات الجيزة    بعد اتهامه بالكفر.. خالد منتصر يكشف حقيقة تصريحاته حول منع شرب ماء زمزم    بجوائز 2 مليون جنيه.. إطلاق مسابقة " الخطيب المفوه " للشباب والنشء    3 إعفاءات للأشخاص ذوي الإعاقة في القانون، تعرف عليها    أعظم الذكر أجرًا.. احرص عليه في هذه الأوقات المحددة    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    هل يتم استثناء العاصمة الإدارية من تخفيف الأحمال.. الحكومة توضح    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو إبداع وطنى مصرى
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 03 - 2019

لا يختلف محمود مختار عن سيد درويش، ولا عن كل أبناء جيل ثورة 1919 وقياداتها فى مجالات الإبداع المختلف، فى الإيمان بالنزعة الوطنية التى تدعو بدورها إلى الإعلاء من شأن الوطن بما يشيع معانى الوطنية فى نفوس أبنائه جميعًا، وتقوم بتجسيد إبداعه فى منحنى لا يفارق خصوصيته. هكذا جمع إبداع ثورة 1919 بين الأصالة والمعاصرة بوجه عام، كما جمع بين العمومية والخصوصية، مؤكدًا بُعده الإنسانى، وبُعده الخاص الذى يقترن بمصر الأم التى يوحِّدها النيل، ويسم شعبها كما يسم أرضها بسمات خاصة، تتجسد فى رمزية مصر الفتية التى ترعى كل أبنائها فى كل عصر وأوان. والحق أن هذا المعنى يتكرر فى كل إبداعات مختار، حيث الفتاة القروية دائمًا هى الأم، وهى الأصل كالأرض التى يمتد فيها النيل كشريان الحياة فى الجسد الواحد الذى يرويه، فيُنبت الجسد تاريخه المتعامد على المكان الذى يتجسد غالبًا فى تطلع فتى لفلاحة قروية تنظر صوب المستقبل، قَدماها تغوصان فى طين الأرض المسقية بماء النيل، والتى تقترن به فى غدوِّها ورواحِها، عبر فصول تستعيد أسطورة الخلق الكونى الذى لا يكف عن التجدد والتولد.
هكذا تظهر الفلاحة المصرية فى تمثال: «على شاطئ الترعة» الذى يصفه بدر الدين أبو غازى بأنه يصور «فلاحة تصلح رمزًا لشعب بأسْرِه، فى خطوطها وحدة متناسقة تحقق التوازن البنائى للتمثال. ويتمثل ذلك فى يدها التى تسند الجرة، ويدها الأخرى التى تضعها فى شعرية تشكيلية على صدرها، فيتحقق إيقاع يتردد مع باقى خطوط التمثال ومسطحاته مع الاستخدام الذكى للخطوط الرئيسية المستقيمة وما يدخله عليها من تكسير محدود يدل على براعة وذكاء، مع نضج فى الفكر الفنى.. أما خلفية التمثال فالخطوط تتقابل وتتباعد ويستخدم المثّال.. منجزات الفن التجريدى ويستوعب تجارب الفن الحديث دون أن يتقيد بأية مدرسة من مدارسه. إنه يستخلص منها ما يتفق مع إحساسه الفنى، ثم يقوم بصياغة عمله فى حبكة بنائية محكمة تجمع الأزمنة كلها فى إهابها وإطارها المخصوص».
وما ينطبق على تمثال: «على شاطئ الترعة» الذى لا يُقيِّمه إلا مصرى فلاح يعرف معنى الترعة وشاطئها، ينطبق كذلك على التمثال الآخر: «على ضفاف النيل» الذى أنجزه الفنان محمود مختار عام 1926، وهو التمثال الذى يجمع فى مزج أصيل ما بين رقة النحت الفرنسى فى الاهتمام الشديد برهافة الحركة وليونتها المموسقة مع صلابة النحت الفرعونى فى صلابة حَجره وتناغم عناصره، ولذلك تشف الملابس عن الجسد الذى لا تظهر تفاصيله، ولكن تلمح إليها رقة الحجر الذى لا ينسى تماسكه والتفافه حول بقية الجسد الذى تمسك قبضته اليمنى بالجرة، بينما شفافية الرخام، ونصاعة بياضه، وتنوع تموجاته، تقارب ما بيننا ولمسات الفن التعبيرى الذى يؤكد تغير الرؤية والرؤيا، وقُل الأمر ذاته على تمثال: «العودة من السوق» من الرخام الأبيض، (1928)، و قبله «الحزن» (1927) و«فلاحة جالسة» من البازلت ما بين عامى (1927 1929) وتمثال: «إلى النهر» من الحجر الجيرى، ما بين (1927 1929)، وهو تمثال لا يخلو من معانى الخصوبة والليونة والدلال التى يتجاوب فيها جسد الفلاحة المصرية مع مجرى النهر فى الأقواس والمنحنيات، أو تردد الإيقاع ما بين الجسد الفارع نسبيًّا للفلاحة المتوثبة بالحيوية، والنهر المتوثب بالأمواج، فى حركة إيقاعية يتناغم فيها الحضور البشرى للمرأة منتصبة الجسد مع الحضور الطبيعى للنهر الذى يمتد أفقيًّا فى طيات الموج. وهو الأمر نفسه الذى ينطبق على فلاحات: «العودة من النهر» من الحجر الجيرى،(1928) حيث وحدة الشكل البنائية التى تتوزع إيقاعاتها الحجرية أفقيًا على ثلاث كُتلٍ حجرية متصلة، لا تنفصل واحدة منها عن غيرها فى التجاوب الحميم الذى تُجسِّده قامات ثلاث لفلاحات يحملن جرارًا فى تنوع تشكيلى مدهش يرد التنوع إلى وحدة رهيفة وأصيلة فى الوقت نفسه.
لكن تأتى المعجزة النحتية التى تتمثل فى تمثال: «الخماسين» من الحجر الجيرى عام (1929) المعروض فى متحف محمود مختار بالجزيرة. ورياح الخماسين رياح مصرية ساخنة محمَّلة بالرمال والأتربة، تهب على مصر فى فصل الربيع من كل عام، وتحمل هذا الاسم لأنها تهب فى موجات متفرقة موزَّعة على خمسين يومًا بعد عيد الربيع. وهى فى خصوصيتها التى تنطوى على عمومية ما، تجمع ما بين عنف الطبيعة وتحدى الإنسان لها. أعنى عنف الطبيعة التى يحمل هواؤها حبوب اللقاح ومصارعة الإنسان لهذا العنف الذى يقابله بما يشبه مثيله فى نوع من الصراع المكتوم الذى لا يخفى ظاهره ما يحدث فى باطنه من فعل الخصوبة التى تتفاعل فيه دلالات الدفع والعنف والمقاومة التى تؤكد الحضور القابل للخصب والنماء والتولد فى علاقة الطبيعة بالإنسان، خصوصًا حين تتجسد معانى الامتلاء بالهواء المتدافع فى قوة، والرغبة فى مواجهته ومقاومته واحتوائه فى آن.
وننتقل من العنف المحكوم كأنه فعل الخلق المتولد ما بين الطبيعة والإنسان فى الخماسين إلى تمثال: «مناجاة» الذى تنسرب فيه نعومة المناجاة الهامسة بين الرجل والمرأة، فيأتى فى هيئة تكوين هرمى رخامى تجلس فيه الفلاحة المحبوبة القرفصاء على المستوى الأعلى ويسند الشاب ذقنه إلى يديه بينما ترتكز ذراعاه على حِجر الفتاة الفلاحة.
وكلاهما فلاحان يتناجيان ويتبادلان ما لم يُعلناه أمام الناس، ولكن بما يكرر على نحوٍ رهيف صدى ل «أسطورة أوديب»، فمعنى الأمومة ماثل فى التمثال لكن بما لا يفارق معنى الرغبة الحَيِّية والحنان الدائم إلى قرب الأم فى وجود حميم لا يخلو من الإيقاع الهامس بين الطرفين. ويأتى تمثال: «القيلولة» عام (1928) معبرًا عن مدى الاستغراق فى الآمال والأحلام والمصاعب المضافة التى تصنعها الحياة فى مجرى وعى الأم المصرية الريفية التى تريد فلا تُعطَى، وتُعطَى ما لا تُريد، فلا تملك إلا الجلوس مسندة رأسها إلى يدها فى نوعٍ من الراحة المختطفة بين مطالب أفراد العائلة التى تعتمد عليها. ومرة أخرى يبدو الخاص سبيلًا إلى العام فى هذا التمثال كما يبدو التأمل النحتى فى خصوصية المرأة المصرية وصولًا إلى العام فى أعماق المرأة الفقيرة فى كل مكان من التجمعات البشرية.
وإذا أضفنا إلى ذلك تمثال: «ابن البلد» الذى لا يخلو من ملامح الفهلوة بأسلوب كاريكاتيرى مرح ساخر، سريع البديهة، حاضر النكتة، وهو أقدم التماثيل التى نعرفها لمختار عام (1911)، ردتنا أواخر تماثيله إلى أوائلها فى خط متباين الإيقاعات التى لا تخلو من تناغم يجمع ما بينها حتى فى متغيراتها الظاهرية، وأدركنا السر الساحر لعظمة فن محمود مختار وعالميته أو إنسانيته فى آن. فهو مبدعٌ أصيل يغوص فى الدلالة الفردية لحضور الكائن المصرى فى أخص خصوصياته واصلًا إلى الجذر الإنسانى للمعنى الذى يُفضِى إلى العام، والذى يكتشف أن أول الأصالة هى الغوص عميقًا فيما يخصنا وما ننتسب إليه فى علاقة حميمة سواء فى حاضرنا الوطنى أو تاريخنا الوطنى أو فى نماذجنا الشعبية، باحثين فى ملامح الخاص عن المعنى العام، لكن بما يؤكد الهوية الخاصة للفرد والمبدع الذى يبحث عن ملامح وطنه ودرجة تجليها فى رموزها الوطنية الخاصة التى تجعل من الفلاحة المصرية بوجه خاص معادلًا رمزيًّا للوطن المصرى الذى يهب بِنِيله الحياة لكل من يعيش على ضفَّتيه، وذلك بالقدر الذى يهبهم خصوصياتهم التاريخية الغائرة والمطمورة فى الطمى الذى تمتد طبقاته إلى أبعد عصور الفراعنة، وذلك على نحوٍ يرد أبعد أزمنة الماضى على أحدث أزمنة الحاضر بما يضيف دائمًا إلى الوعى المنهك فى الحاضر أو المهوَّس بانحدارته، صحوة تدفع فيه العافية، فتنهض به كما تنهض الفلاحة المصرية الشابة بأبى الهول الذى مضى عليه ما لا يُعد من القرون، فتبث فيه الحيوية التى تجذبها قدماها من طمى النيل، ناقلة إليه الحياة كى تعود إليه صحوته وينهض كالوطن الذى نهض فى ثورة 1919 ليعلن أنه مستعد لكى يكرر هذا النهوض عندما تتوافر له الشروط المماثلة لفعل الثورة الذى يتناغم فيه كل ما يردُّ الزمان على المكان، ويردُّ المكان والزمان على الشروط التى لا بد أن تأتى محمَّلة برياح أشبه برياح الخماسين كى يملأ غبار الطلع كل شىء فى مصر فتنهض تارة أخرى. وكان مختار بهذا النوع من الفن يرسِّخ معنى أصيلًا وحرًّا من معانى الوطنية فى الإبداع أو الخصوصية، وذلك فى تفرد رؤياوى وجمالى فى آن عبر ثنائية تجمع ما بين الأصالة والمعاصرة، أو ترد المعنى الوطنى على المعنى الإنسانى، وذلك بما يؤكد معنى أصيلًا من معانى الفن بوجه عام ومعنى رفيعًا من معانى المواطنة بوجه خاص.
وهذا هو التأثير الحقيقى الذى تركه محمود مختار ليس فى وعى النحّاتين الذين جاءوا من بعده وصولًا إلى آدم حنين الذى بدأ من حيث انتهى محمود مختار، ولكن بل إلى الشعراء الذين عاصروه وتأثروا بحضوره الساطع فى سياق من الشعور العارم بالحس الوطنى الذى فجَّرته ثورة 1919، وأكَّدته اكتشافات توت عنخ آمون عام (1924). وهو حس تجلى بأوضح صِوَره فى الاحتفال الوطنى البهيج بإزاحة الستار عن تمثال: «نهضة مصر» عام (1928)، التمثال الذى شد الأعين إلى أسلوبه الذى انطوى على وحدتى الأصالة والمعاصرة، ورهافة التوازن بين عناصر الهوية التى وصلت النحت الفرعونى وملامح القرية المصرية بثمار الإبداع العالمى المعاصر، دون تنازلٍ عن الوعى بالخصوصية والطموح الإنسانى فى آن. وبواسطة هذه الوحدة وتلك الرهافة، خلق محمود مختار أسطورة القرية المصرية، ووهب فنَّه للرجل العادى، وعثر على معجزته الحقيقية فى وفائه للفلاحة المصرية التى جسَّدها فى إبداع نطق لغة العالم المعاصر بلهجة محلية صافية. وكما كان تمثال: «الخماسين» تجسيدًا إبداعيًّا للرياح العاتية التى تهبُّ من الصحراء كل ربيع على وادى النيل، فتحمل لوجود النهر نقيضه «الصحراء»، وتَحمِل لرمال الصحراء خصوبة الطمى التى تمتزج فى غرين النهر فتجعل لوجود النهر معنى مغايرا، وسط الصحراء، مؤكدة وجود النهر النوعى إزاء نقيضه الصحراء، كانت تماثيل محمود مختار تجسيدًا إبداعيًّا موازيًا لمعانى الوجود المتعدد للفلاحة المصرية التى جسَّدت حضورها أغلب تماثيل مختار التى وصلت ما بين الفلاح والفلاحة، وصلها بين المجرد والمتعين، الحركة والسكون، النظام والانطلاق، النسبى والمطلق، على نحوٍ يغدو معه كل تمثال، صورة أخرى من النيل الذى يبدأ من الزمن ليجاوز الزمن.
هكذا كان لتماثيل مختار والخطاب النقدى الدائر حولها أثر حاسم على وعى الجيل الشاب الذى جاء بعده منتميًا إلى تاريخ مصر وتراثها، كما حدث مع الشاعر محمود حسن إسماعيل (1910 1977) الذى ردَّه فن محمود مختار إلى أن ينظر إلى قريته «النخيلة» بمنظور جديد، ويفتح عينيه على فتنتها التى لم يكن قد انتبه إليها من قبل، فعلَّمه كيف يبطئ إيقاع التقاء العين بالمشهد، وكيف يصوغ منه صورة رامزة هى علامة على إبداع خاص. وبفضل محمود مختار، ودلالة إبداعه، أدرك محمود حسن إسماعيل نهضة فنون أخرى غير الشعر فى وطنه، فنون تستلهم وحيها من الطبيعة المصرية، بدل تقليد الآخر القديم فى التراث أو الآخر الجديد على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. هذه الفنون المصرية أصبحت عالمية، لأنها غاصت فى أعماق وجودها الخاص، وصاغت من إدراكها الجمالى المتفرد إبداعًا ينظر إليه العالم الغربى نظرات الإعجاب فى متاحفه ومعارضه الفنية، حيث آيات فذة من مناظر الريف المصرى، هى آيات من صور مصرية يكاد ينطقها جلال الفن، عرضها المثّال المصرى محمود مختار فى متاحف باريس، من: «حاملة الجرة» التى صوَّرها على شاطئ النيل إلى: «بائعة الجُبن» التى نراها فى الأسواق الريفية إلى غير ذلك من وحى الفن المصرى الذى تتوثب فيه روح الوطنية التى طالما تباعدنا عنها عجزًا عن إدراكها، وانحرافا عن معناها الأصيل.
تلك كانت كلمات محمود حسن إسماعيل نفسه فى وصف أعمال مختار، وهى كلمات ذيَّل بها ديوانه الأول الذى صدر عام (1935) بعنوان: «أغانى الكوخ»، بعد وفاة مختار بأشهر معدودة، وكشف بها عن دَيْنه الخاص لأعمال مختار التى تولَّدت من سياق إنجازها، القصائد التى توقفت عند أغانى الكوخ فى قرية «النخيلة» التى لا تختلف، فى جوهرها، عن قرية «نشا» من قرى الدلتا المجاورة للمنصورة، حيث وُلِد مختار، غير بعيد من القرية التى أخرجت سعد زغلول.
لقد أدرك محمود حسن إسماعيل، بفضل مختار، والتيار الذى أكَّد حضوره، أن الطبيعة المصرية تنطوى على ما يُثير شغف المبدع، وتشده فى خصوصيتها إلى وجود الفلاح الذى يراه العابر من أقصى الوادى لأدناه، محنِى القامة فى قميص أزرق، مُكبًّا على الأرض يغرس فيها الحَب، ذلك هو الرجل الذى لولاه ما أزهر وادى النيل. شأنه فى ذلك شأن المرأة الريفية التى تتهادى إلى النيل عند الغروب لتملأ جرَّتها كأنها طيف إيزيس التى تتفتح عنها أحلام النيل. والاهتمام بالفلاح يعنى الاهتمام بالمنبع والمصب، وتكريس الفن للكائن العادى البسيط، الصانع الحقيقى للحياة، واكتشاف أسطورة هذا الكائن الخاصة التى هى أسطورة الوجود المتجدد للحياة على ضفتى النيل. وإذا كان هذا الاهتمام يفجِّر ينابيع شعر الحياة اليومية، البسيطة، الدالة، فإنه يتجه بهذه الينابيع إلى كل ما هو مائز للخصوصية، ولكن بما يكشف عن الملامح الثابتة، فى نوعٍ من التجريد الذى يصل بين فلاحى مختار وفلاحى محمود حسن إسماعيل.
وآية ذلك: «حاملة الجرة» التى انتقلت من تماثيل مختار إلى قصائد محمود حسن إسماعيل؛ حيث التجريد الذى يجسد النموذج، والملامح التى تختزل القسمات العتمة، وتحويل الحضور المتعين إلى حضور يجاوز الزمان والمكان. وكما نحت مختار «حاملة الجرة» من الحَجر، مُجسدًا الحضور الذى يتسم بالتجريد، نحت محمود حسن إسماعيل حاملة جرة موازية من الكلمات التى تبدأ على النحو التالى:
سارت إلى جدولها الدافق
سير الكرى فى مُقلة العاشق
وانية الخطو، كأن الثرى
يحمل منها خطرة السارق
شاهدتُها والشمس فى أُفقها
تحكى فؤاد الثائر الحانق
وتمضى قصيدة محمود حسن إسماعيل لتقيم اتحادًا بين حاملة الجرة وعروس النيل، كاشفة عن تأثر الشاعر بالنحات فى اختيار الموضوع، وإيثار الأسلوب الذى ينحو إلى التجريد، ولكن مع اختلاف المعالجة المرتبطة بخصوصية الأداة، فالنحّات يصوغ موضوعه من الحَجر الذى يجسد لحظة واحدة من الزمان ووضعًا واحدا من المكان، والشاعر يصوغ موضوعه بالكلمات التى تدل على تعاقب الزمان والمكان، ولكن التى تؤكد فى النهاية، أهمية الالتفات إلى خصوصية الموضوع الذى هو «حاملة الجرة».
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.