عندما اندلعت احتجاجات فى السودان ثم الجزائر، تصور التيار الإسلامى أنه سيعيد تكرار تصرفاته فى الموجة الأولى من المظاهرات التى أطلق عليها انتفاضات أو ثورات أو مؤامرات، وشهدتها دول تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، ويقفز ليتصدر المشهد العام، ويجنى العديد من الثمار السياسية. بعد مضى أسابيع عدة لم تتحقق أغراض هذا التيار، بل تعرض إلى انتقادات عارمة وشكوك واسعة، ويكاد يخسر ما حصده من مكاسب كبيرة على مدى السنوات الماضية فى كل من السودان والجزائر. ولم تنطفئ شعلة المظاهرات فى البلدين حتى الآن، غير أن النظام الحاكم فى كليهما اضطر للتجاوب مع جزء من المطالب السياسية للمحتجين المدنيين. معركة كسر العظام بين الحكومة والمعارضة لم تنته، وقد يكون أمامها المزيد من الوقت، لأن كل طرف يقبض على مجموعة من الأوراق تجعله قادرا على التأثير فى التطورات بما يطيل عمر الأزمة، أو يضاعف من عملية السيطرة عليها لمصلحة جهة بعينها، والتى أصبح من الصعوبة حسمها بالضربة القاضية، لأنها مباراة تعتمد على تسجيل النقاط، مع وجود حلقات مختلفة لا تزال مجهولة. المعروف فى الأزمتين أن معظم الدوائر السياسية فى الحكومة والمعارضة، لم تعد تثق تماما فى التيار الإسلامي، ولا تفرق بين متشدديه ومعتدليه، وباتت تقلق من مشاركته فى الاحتجاجات الشعبية، خوفا من صرفها عن مساراتها المباشرة، ولأنها تعلم قدرته التنظيمية الجيدة، وحضوره المؤثر فى المجتمع، لذلك لم تعد عناصر هذا التيار حاسمة فى توجيه المظاهرات ودحرجة أجندتهم السرية، كما كانت فى الموجة الأولي، ولم تستطع اختراق القوى المدنية بالتحايل والمراوغة والإيحاء بتبنى مواقف وطنية. الحكومة فى كل من السودان والجزائر، وحسب كثيرين أنها على وئام أو تفاهم مع قياداته، حرصت على اتخاذ مسافة بعيدة عنه، ولجأت إلى تعميق الثقة فى المؤسسة العسكرية للبحث عن مخرج سياسى مناسب للأزمة، لن يصب فى مصلحة أى من القوى الإسلامية الطامعة فى التكويش على السلطة. الوصول إلى هذه النقطة كان طبيعيا فى الموجة الثانية، عقب ظهور النتائج السلبية التى خلفتها الموجة الأولي، وأدت إلى انتشار صراعات ونزاعات وتوترات عمت بعض الدول العربية، وهو ما خلف قناعات مسكونة بالهواجس لدى شريحة عريضة من المواطنين جراء استمرار المظاهرات، وجعلهم أكثر انضباطا فى الشوارع والميادين، ورفضوا التدخلات الخارجية، ورفعوا شعارات وطنية بلا مواربة، خالية من العناوين الفئوية، الأمر الذى قلل من حجم التأثير الملحوظ الذى اعتادته القوى الإسلامية فى المظاهرات العربية. فى السودان أو الجزائر، لم يغب عن غالبية المواطنين المصير الذى وصلت إليه الدول التى شهدت احتجاجات عنيفة فى الموجة الأولي، ويظل شبح صعود الإسلاميين للحكم على أكتافها ماثلا فى الأذهان، مما أسهم فى تمكين التيار المدنى من الإمساك بحركة المظاهرات لحد بعيد، ولم نسمع عن مندسين وسطهم يطلقون شعارات إسلامية فضفاضة، أو يقوم هؤلاء بالحض على التوجيه نحو مسار سياسى معين، أو حتى تنظيم مظاهرات خاصة. الحرص البالغ من قبل الحكومة السودانية على عدم طرق أبوابهم مباشرة، وعدم الاستعانة بهم كرديف تاريخى مؤيد للتحكم فى حركة الشارع، حمل رسالة سياسية مهمة لطمأنة القوى المدنية الغفيرة، والقوى الإقليمية القلقة من تصدرهم الواجهة. وثمة جهات متباينة فى الداخل والخارج انزعجت من الميل ناحيتهم، وسلك النظام الحاكم طريقا نحو تقليص دور القيادات المعروفة بانتماءاتها الإسلامية، وبدت الساحة السودانية خالية من أصواتهم الزاعقة. النظام الجزائرى لم يقل تريثا فى هذا المجال، وفاقم من حذره لأنه متهم أصلا بالمساهمة فى إضفاء شرعية سياسية على التيار الإسلامي، بعد عشرية الجمر والنار، حيث جعل بعض ألوانه شريكة فى الحكومة، من هنا يحاول أن يصبح أكثر انحيازا للتيار المدني، فى إشارة يتمنى أن تكون كافية لعدم تكرار تجارب سابقة، جنت فيها العناصر الإسلامية مكاسب ظاهرة. ويشير التعثر الواضح فى المسيرات التى سلكتها مظاهرات السودان والجزائر، إلى أن هذا الطريق فقد جزءا من جاذبيته السابقة كخيار وحيد لإسقاط الأنظمة المشبوهة أو الفاسدة. وتأكد أن القوى الإسلامية ليست المحرك الرئيسى له، ولم تعد مستفيدة من تداعياته. واستوعبت الحكومات روافد الموجة الأولي، ولم تلجأ إلى الصدام أو عقد صفقات سرية مع دوائر سياسية معارضة. يبدو أن السماح بصعود القوى الإسلامية وبال عليها، وكشف العديد من الألاعيب التى كانت تنتهجها بسهولة لاختراق عقل وقلب القوى المدنية، وفشلت أدوات اللعب على عواطف المواطنين فى الحشد، الذين أصبحوا أشد استنفارا عند طرح أى ملامح للخطاب السياسى الإسلامي. القيادات المدنية انتبهت لمخاطر الخدع التى وقعت فيها من قبل، وأفضت إلى تشويه صورة الكثير منها، التى ظهرت جنبا إلى جنب مع قيادات إسلامية التحفت رداء معتدلا لتخفى رداء يحمل بصمات قاتمة، مما جعل شخصيات حزبية كثيرة فى السودان والجزائر تنأى بنفسها عن التحالف فى العلن مع جهات لها مرجعية إسلامية. المؤشرات السلبية التى حملتها المظاهرات خلال الأسابيع الماضية، قلصت فاعلية القوى المؤدلجة. وبدلا من أن تكون تطورات السودان والجزائر تعزز من نفوذها فى المنطقة، ربما تمضى فى طريق معاكس، وتتراجع هيمنتها فى بعض الدول التى انتعشت فيها، واعتقدت أن لديها قدرات فائقة للحفاظ على حظوظها، وبدأ الدعم الذى تتلقاه من دوائر محلية وخارجية يتراجع بشكل أزاح عنها جزءا من بريقها. قدمت أحداث السودان والجزائر للقوى المدنية فرصة لإعادة التموضع بعيدا عن التيار الإسلامي، وكبلت الحكومتين حيال عدم التعويل عليه فقط، باعتباره يملك تنظيما حديديا يمنح قياداته وكوادره حركة واسعة للسيطرة على بوصلة المظاهرات. بالتالى سوف تطرأ بعض التغيرات فى المستقبل القريب على الصورة الذهنية التى أوجدتها ممارسات سابقة، بما يفضى إلى تحولات فى شكل الخريطة السياسية للتيار الإسلامي، الذى بدأ يعانى فقدا واضحا فى الجاذبية الشعبية، ومرجح أن تظهر تجلياتها فى المآلات النهائية لما يجرى فى السودان والجزائر. لمزيد من مقالات محمد أبوالفضل