ينحنى قرص الشمس، ويتجرأ الظلام شيئا فشيئا، وتداعب الآذان لمسات صفير ريح تبدو فى ظاهرها خافتة حانية، ولكنها تحمل فى جعبتها نذر خواء مكانى مترامى الأطراف فى كل اتجاه، وذكريات شتى ملؤها شذرات رمال سيناوية صفراء، تتطاير بعبق أجساد شهداء كثر من خيرة الشباب (بحق), احتضنتهم الكثبان صرعى فى جوف ليل بهيم عوضا عن أهل يئسوا من عودتهم ولو أشلاء أجساد مستورة برايات الوطن! وعلى مرمى البصر، برجا مراقبة على الجانبين، (اطمأن) ساكناهما (لاستحالة) حدوث جديد, وإن ظل الحذر (المتوارث) يحكم لغة حوار صامتة بين أعينهما المترقبة إذا ما تلاقت عمدا أو حتى تلاقت بمحض مصادفة من بعيد. وعندما تتلاقى الأعين، تحكى فى صمت رهيب حكاية أسدل عليها ستار تمر على إسداله اليوم تحديدا أربعون سنة, ستار حسم به الأجداد طول صراع دموى لم ير حين احتدم سوى مافرضه (الماضي) فقط من شروط وقواعد لهذه العلاقة تحديدا, ولتتطاير بين الناظرين فى هواء المشهد أسئلة متناقضة حائرة برائحة الزمان: ماذا إذن كانت وجهة نبى الله موسى حين أمرته السماء (بالخروج)؟ ومن هم كانوا (القوم الجبارين) القابعين فى انتظاره وقومه فيها؟ وما علاقة هؤلاء الجبارين بمن رحلوا مع خليل الله إبراهيم من أور الكلدانيين بالعراق القديم؟ وما علاقة إبراهيم بإسماعيل بِإِسْحق بيعقوب بيوسف بموسى من بعده, سلام الله عليهم أجمعين, بهذه الأرض تحديدا؟ ثم ماعلاقة هذه الأرض بالملكين داود وسليمان ومن ثم بمملكتين تم تأسيسهما بشهادة الأديان والتاريخ (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى (مُلْكِ) سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا..)؟ ثم ماعلاقة كل هؤلاء بمافعله نبوخذنصر من تنكيل وسبى لنسل هاتين المملكتين ببابل؟ ثم ماعلاقة كل هذا بشتات دام لقرون ثم عودة خبيثة ممنهجة لهؤلاء؟ خبيثة لأن دراساتهم إقرت بأن كل من عادوا على هيئة جاليات, أسكنت (بضم الألف) الدول المحيطة بالأرض المقدسة فى غفلة من أهلها الأطياب, كانوا على علم تام بأنهم قد جيء بهم ليمكثوا قليلا كى يعودوا إلى الجذور رأسا بوعد أرضى (بلفوري) لا سماوى هذه المرة؟ أكوام من وثائق متهالكة بالية ومعلومات متضاربة، فى مقابل أسطر من نور أرسلتها السماء بالوعد تارة وبالوعيد تارات، ودقات قلوب مؤمنة من الجانبين تنتظر فى شوق انقشاع الستار عن عناصر المشهد الدموى الأخير, معركة هرمجدون, تترقب الشارة العقائدية المنتصرة التى سيتمخض عنها غبار تلك المعركة التاريخية (المقبلة), لتنبئهم بمصائر من سكنوا القبور من ذويهم منذ قديم الزمان مطمئنين لهذه العقيدة أو تلك دون بلوغ نتيجة تلك المعضلة الكونية الأيديولوجية الشرق أوسطية (تحديدا)، المحددة لمصير الكون الفسيح مترامى الأطراف ذى الكواكب والمجرات المتباعدة بملايين السنوات الضوئية، لا نعلم عن أهلها شيئا، ولكن مصيرها ومصيرهم ومصيرنا ستحدده تلك المعضلة المزمنة الضاربة جذورها بقوة فى جسد الزمان المتهالك المتصابى العنيد! وتعود كاميرا الزمان مسرعة نحو راية زرقاء يعاندها (نقاء) البياض وأنهكها تعاقب الرياح منذ العام 1948, وأخرى بألوان سواد الاستعمار وحمرة الكفاح وبياض التحرر.. تعلو تلك هذا البرج, وعلى مبعدة محسوبة منها تعلو الأخرى ذاك.. وجندى شاب هنا، وجندى شاب هناك، شاء القدر أن ينجو الاثنان (مؤقتا) من مصير تلك المعادلة الكونية الرهيبة، والله وحده أعلم بما هو آت!. ولكن الأقدار شاءت أن يخرج من نبت هذه الأرض عملاق أسمر استطاع أن يفك شفرة التوتر, ويقفز فوق حواجز الماضى والحاضر والمستقبل معا؛ ويهبط بطائرته فوق مدرج طائراتهم المغوارة, رافعا رايات النصر؛ يحمل (درعا وسيفا), ويجبرهم هذه المرة على الاستسلام لنداء العقل والسلام.. وقد كان. ولم يكن السلام إنجازا فى حد ذاته, من وجهة نظري, بقدر ماكان الحفاظ على السلام هو عين الإنجاز؛ فبرغم أن التاريخ قد حكى أن الشك قد تمكن من قادة إسرائيل يومئذ إلى درجة تخوفهم من أن تكون زيارة السادات خدعة تنطوى على تنفيذ عملية اغتيال جماعية للواقفين فى شرف انتظاره بمطار بن جوريون بواسطة فرقة انتحارية تستقل الطائرة نفسها, هكذا تخوفوا!. وبرغم أن أحداثا جسيمة ومفصلية قد مرت سحبها الداكنة فوق أرض الكنانة والمنطقة ككل أيقظت بركان الشك والخوف اليهودى المتأصل، كان أخطرها قاطبة حادث المنصة وما استتبعه من تغير الوجه الرئاسى فجأة, ثم مسلسل عزل مبارك فى آتون ثورة عارمة دقت ناقوس القلق بعد نحو ثلاثين عاما من الاطمئنان اليهودى للالتزام المصرى بالمعاهدة, ثم ثورة تعالت خلالها صيحات مناهضة لإسرائيل جهارا فى كل شبر من الشارع الثوري, ثم دخول البلاد فى جدليات السفسطة والعنتريات الثورية والصدامات الدموية، وصولا إلى تمكن الإسلام الراديكالى وتصدره للمشهد السياسى بكل ما يحمله هذا التيار من عداء لليهود فى عمق أيديولوجيته, وقوده الماضى وممارسات العنف الإسرائيلية المنحازة للتجبر فى الحاضر, ثم وصولا إلى ثورة الشعب على هذا التيار جملة وتفصيلا وإعادته كرها إلى المربع رقم صفر! وعلى الجانب الآخر، برغم كل التجاوزات العسكرية الإسرائيلية فى جميع الاتجاهات منذ توقيع هذه المعاهدة... برغم كل هذه التغيرات الحادة، لم يمس المصريون طرف تعهدهم بالالتزام التام بالسلام، وهذا يحسب لنا أمام العالم بأسره (لمن هم يعقلون)!. واليوم فى ذكرى توقيع معاهدة السلام، هاهو تساؤل مناحم بيجين يسقط فى قاع الزمان للأبد، وإن انطوى فى جوهره على معنى أراه خبيثا يدق لهم ناقوس الحذر الدائم، وفيما معناه: كيف استطاع السادات أن يحول المصريين بين ليلة وضحاها من شعور شديد بالعداء للإسرائليين إلى شعور بالقبول؟. نعم، لقد استطاع ؛ ذلك لأن الجانب الحضارى (المسالم) داخل العقلية المصرية هو سر هذا البلد؛ وإن هذا الهرم الشاخص أمام الأعين يمثل عدوى حضارية فريدة وركيزة اطمئنان تاريخى لا يفهمها سوى المصريين وحدهم؛ حتى وإن انخدعت الأعين بمظهر البعض وتصورت أن الأمية قد نالت من تحضرهم.. كلا، إن المراهنين على انفلات زمام المصريين للأسوأ هم الأخسرون. وأنا أراهن على أن خبراء الموساد والسى آى إيه (وغيرهم كثر) مجتمعين يضربون كفا على كف فى كل يوم مائة مرة, وهم يرسمون الرؤية تلو الأخرى والخطة تلو الخطة معتقدين أنهم قد فهموا مفتاح هذا الشعب، فإذا بخططهم تتبدد وتذهب أدراج الرياح، ولاتزال مصر صابرة صامدة مسالمة متحضرة وستظل.. لمزيد من مقالات أشرف عبدالمنعم