من ثوابت التاريخ الأدبى للقرن العشرين الصداقة بين سارتر، وكامى. ومشاركتهما فى تأسيس الفلسفة الوجودية. وكتابتهما الإبداع الأدبى الروائى. وإن كان أحدهما من أصحاب العمر القصير. عاش 46 عاماً، بينما سارتر أكمل ثمانين عاماً. كنت أستغرب صداقتهما. فالأدب منذ فجر التاريخ وحتى الآن لا يقدم صداقات كاملة بين مبدعين كبيرين. لأن كل مبدع له كيانه وعالمه وذاتيته. وربما نرجسيته التى تحول دون أن يصبح جزءاً من صداقة إنسانية كالتى تجمع بين الناس العاديين. لا أقصد أن المبدع الكبير ليس إنساناً. وأن المبدع الحقيقى صاحب الموهبة الكبرى لا بد أن يختلف عن الإنسان العادى. ليس فى الإبداع سواء كان كتابة أو أى شكل آخر من أشكال الإبداع. لكن من المفترض ان يختلف عن البشر العاديين. مجلة الشارقة الثقافية التى تصدرها شهرياً دائرة الثقافة بالشارقة. وهى الدائرة التى تلعب ما هو أكثر من دور وزارة الثقافة فى دولة كبيرة. فعلاوة على الشارقة تصدر الدائرة مجلة الرافد. ومطبوعات أخرى. بل إن حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمى، يتعامل باعتباره مثقفاً وليس حاكماً ولا مسئولاً. ولا يجد سعادته إلا عندما يجد نفسه وسط مجموعة من المثقفين. مجلة الشارقة التى يرأس تحريرها رئيس دائرة الثقافة: عبد الله محمد العويس. ويدير تحريرها: نواف يونس. فى عددها الأخير، العدد التاسع والعشرون، مارس الحالى. نشرت ضمن ما نشرته مقالاً شديد الأهمية بعد أن قرأته بعناية واهتمام. اكتشفت أن حق القارئ عليَّ أن أشركه معى فى اكتشافاتى بعد قراءة هذا المقال. لأنها تقترب من ثوابت الحياة الثقافية الفرنسية. وربما العالمية فى القرن العشرين. عناوين المقال الكبير الذى احتل أربع صفحات من القطع الكبير من المجلة تبدو كالآتي: جمعهما الأدب وفرقتهما الأفكار. كامى وسارتر وخلاف الأديب والفيلسوف. كاتب هذا البحث شاب كما يبدو من صورته هو: محمد علام. لكن للأسف فإن المجلة لا تنشر أى معلومات عن كتابها. وهذه المعلومات قد تكون مهمة. خصوصاً عندما يتوقف الإنسان أمام مقال. لأنه يهز ثوابت الحياة الثقافية. ومن ثوابت الحياة الثقافية التى عرفناها أن الثلاثي: سارتر، بوفوار، كامى، أسسوا تياراً أدبياً يعد من أهم التيارات الأدبية فى قرننا العشرين. ترك لنا تراثاً أدبياً وفلسفياً وفكرياً مهماً. فما زلت أذكر عندما جاء سارتر وسيمون دى بوفوار بدعوة من الأستاذ: محمد حسنين هيكل. باسم جريدة الأهرام العريقة. وزارا مصر وقابلهما جمال عبد الناصر. وذهبا إلى قرية كمشيش بالمنوفية، فى الأيام التالية لاستشهاد الشهيد: صلاح حسين. زوج شاهندا مقلد. يومها اعتبرنا الزيارة حدثاً ثقافياً من الأحداث المهمة. كانت بينهما مشكلة أن كامى حصل على جائزة نوبل فى الآداب. وهو فى السادسة والأربعين من عمره. وبعد ذلك بعشر سنوات منحت جائزة نوبل فى الآداب لجان بول سارتر. وقيل إنه رفضها. وقيل إنه اعتذر عنها. واعتبر مع برتراند راسل، من أهم رموز الغرب الذين رفضوا الجائزة التى يضرب بها المثل بين الجوائز فى عالم اليوم. ابتداء من أول قرننا العشرين وحتى الآن. هذا التحقيق الأدبى الجميل أثبت أن العلاقات بينهما سارتر وكامى لم تكن على ما يرام. أو سمناً على عسل كما نقول نحن. بل كانت فى علاقاتهما ظلال كثيرة تنفى عن الصداقة فكرة الحميمية أو التطابق التام. فى رسالة كتبها سارتر لكامي: عزيزى كامى. لم تكن صداقتنا سهلة يسيرة. بيد أننى سأفتقدها. إذ أنهيتها أنت اليوم. فذلك يعنى دون شك أنها لا بد أن تنتهى. أمور كثيرة جذبت كل واحد منا للآخر. وقليل منها فرق بيننا. ولكن هذا القليل على قلته كان ولا يزال كثيراً جداً. وهكذا ألقى سارتر على كامى، مسئولية إنهاء صداقة إنسانية ورفقة كتابة وفكر عمرها عشر سنوات. وأجهز فى لحظة فلسفية انفعالية على أيام الرفقة والكفاح واندفع لدرجة أنه أصبح من المستحيل التراجع عن ذلك. ودمر سارتر وكامى، الوسط السياسى لكل منهما. كما أطاحا بكل أثر دال على أنه كان لهما يوماً ما مشروع مشترك. والعلاقة بدأت عندما قرأ كامى، رواية سارتر: الغثيان عام 1938، وكان محرراً مبتدئاً فى صحيفة جزائرية. يحرر عاموداً بعنوان: غرفة الاطلاع. كتب كامى عن سارتر، بكل حب واندفاع وجرأة. لكن كانت هناك ندية بين كاتب شاب وكاهن الوجودية الأكبر. متجاوزاً سنوات العمر التى تفصل بينها ولم تكن تزيد على تسع سنوات. تصف سيمون دى بوفوار لقاء سارتر وكامي: لم أر سارتر فى هذا الحالة من قبل. فمنذ زمن لم يلفت انتباهه شخص فى باريس. وهى التى ورد عليها عمالقة الأدب والفكر عبر التاريخ. كان منهمكاً فى صمته. وجاء كامى ليقاسمنا طاولتنا. وتحدثنا ثلاثتنا كأننا نعرف بعضنا بعضاً منذ عمر طويل. لاحظت سعادة سارتر باقتراب كامى منه. كان هو الشخص الذى نجد فى صحبته متعة وسعادة لا حصر لها. رأينا فى علاقتنا به صفقة إنسانية كبيرة. من أين يأتى الذبول والتلاشى لعلاقات الناس لبعضهم البعض؟ كيف تسللت النهاية لكل هذا الحب بينهما؟ حسب هذا المقال. وهو الوحيد فى حدود علمى الذى يتوقف أمام هذه العلاقة الملتبسة. فإن هناك أمرين وصلا بهما إلى المربع الأخير. الأول أن سارتر كان رجل فكر. فى حين أن كامى كان رجل عمل. صحيح أنه كان كاتباً مهماً. وربما كانت رواياته أجمل بكثير من روايات سارتر. لكنه لعب أدوراً مهمة فى العمل السرى. ورآه سارتر مرة واحدة. ولم يستطع أن يمضى معه طويلاً. طالما كتب سارتر عن الثورة والحرية وامتلأت كتاباته بكلمات عن الحرية والمقاومة. لكنه لم يعرف أبداً كيف تصنع الثورة من الأسفل؟ وهكذا عندما نزل من برجه العاجى أمام الشاب القادم من الجزائر. اكتشف المسافة بين الفكر الخالص والقدرة على الإقدام على العمل. ثم جاءت كارثة نوبل وحصول كامى عليها قبل سارتر. فدمرت كل شيء. وكم دمرت نوبل من نفوس الكتاب الذين اعتبروها حلم العمر الوحيد. لمزيد من مقالات يوسف القعيد