انصهر المصريون جميعًا فى ملحمة ثورة 1919 فشارك فيها كُل المصريين من مسلمين وأقباط ويهود من أجل تحقيق هدف واحد مُشترك وهو انهاء الحماية البريطانية واستقلال مصر. وكما كتبت من قبل فى هذا المكان، فقد كانت المشاركة شاملة لكل طبقات الشعب وفئاته وأصحاب المهن المختلفة، واتسع نطاقها الجغرافى ليشمل عددا كبيرا من قرى مصر ومدنها، ويسجل الأستاذ عبد الرحمن الرافعى فى كتابه عن الثورة الأحداث التى وقعت فى كل مدينة وأسماء شهدائها. وبينما تكثر الكتابات عن مشاركة المسلمين والأقباط فى أحداث الثورة, فقليلة هى الدراسات التى سجلت دور اليهود، ربما لقلة وزن دورهم بحكم عددهم المحدود ،ففى عام 1917 لم يتجاوز عددهم 60 ألفا، ورُبما أيضًا بحكم تركيز الباحثين على بداية التغلغل الصهيونى بين اليهود فى مصر والذى بدأ بوصول يوسف ماركو باروخ من بلغاريا عام 1896، وازداد بزيارة «تيودور هيرتزل» مصر فى 1903، ثُم بزيارتى خلفه حليم وايزمان فى عامى 1918، 1922. ومن المهم للغاية فى فهم أوضاع اليهود فى مصر التمييز بين عدة فئات وعدم الخلط بينهم، فهناك مجموعة يهودية شكلت أحد مكونات المجتمع المصرى منذ دخول الإسلام وأصبحت جزءًا من النسيج الاجتماعى المصرى، كما أوضح ذلك بجلاء الدكتور قاسم عبده قاسم فى كتابه «عن اليهود فى مصر» والذى درس فيه أوضاع اليهود حتى خضوع مصر للدولة العثمانية عام 1517. خلُص الكتاب إلى أن المصريين اليهود: لم يعرفوا وطنًا لهم غير مصر ولم يكن لهم طموح خارجها. اشتغل اليهود فى مختلف الحرف والمهن اليدوية والتعليمية والإدارية والطبية والتجارية والمالية فى ظل الدولة الفاطمية والأيوبية والاخشيدية والطولونية, وشغلوا مناصب رفيعة وعُليا فى الجهاز الإدارى. لم يعش اليهود فى معزل ثقافى أو حرفى أو سكنى أو اقتصادى وإنما كانوا فى تواصل وتداخل مستمرين مع مُحيطهم الاجتماعى يؤثرون فيه ويتأثرون به. وإلى جانب هؤلاء, قدم إلى مصر من بداية القرن التاسع عشر أعداد من اليهود الأجانب للعمل فى المشروعات الاقتصادية والتجارية والمالية الحديثة, وحمل كثير منهم جنسيات أجنبية أو سَعوا للحصول عليها للتمتع بالحماية والامتيازات الأجنبية, أو كانوا بدون جنسية. وعلى سبيل المثال ففى عام 1914, أبعدت الدولة العثمانية 11 ألف يهودى روسى من فلسطين فقدموا كمهاجرين إلى مصر. فى هذا السياق, لم يتخلف قطاع من اليهود عن المشاركة فى ثورة 1919, فقام حاخام القاهرة بتوقيع أحد التوكيلات للوفد المصري. ويسجل الدكتور رشاد رمضان عبد السلام فى كتابه «عن يهود مصر» عديدا من وقائع مُشاركة اليهود فى ثورة 1919, فكان ممن نشطوا فى الوفد كل من فيلكس بينزاكين وفيتا سونسينو. وكان هناك دافيد هزان, الذى بدأ نشاطه السياسى بالانضمام الى الحزب الوطنى بقيادة مصطفى كامل، وشارك فى عمليات اغتيال الجنود البريطانيين ابان الثورة فأصدرت السُلطات العسكرية حُكمًا غيابيًا عليه بالإعدام. وفى عام 1921, قام ليون كاسترو, الذى ارتبط بعلاقة صداقة مع سعد زغلول, بتوجيه دعاية الوفد المصرى فى أوروبا لكسب التأييد لاستقلال مصر, وأسس صحيفة باللغة الفرنسية للتعبير عن آراء الوفد باسم الحرية. وكان من أشهر الشخصيات اليهودية التى دعمت الوفد يوسف أصلان قطاوى الذى دعَم سعد زغلول بقوة فى البداية ثُم عندما حدث الخلاف بين سعد وعدلى يكن, انضم للأحرار الدستوريين فى عام 1922 وكان أحد أعضاء لجنة الثلاثين التى وضعت مشروع دستور 1923, وتغير موقفه بعد ذلك ليُصبح معاديًا للوفد واختير وزيرًا للمالية فى حكومة أحمد زيور باشا فى نوفمبر 1924 ثُم عينه الملك عضُوًا فى مجلس الشيوخ عام 1927. كما شارك المحامى مراد فرح ليشع, فى الأعمال التحضيرية للدستور وكان معروفًا بوطنيته وقربه من الخديو عباس حلمى الثانى واشتغل رئيسًا لقلم قضايا الأوقاف بقصر عابدين حتى عزل الانجليز للخديو عام 1914. ومن المظاهر الأخرى لانخراط شخصيات يهودية فى دعم الثورة قيام يسوف ايلى دى بيكيوتو رجل الأعمال السكندرى بتنظيم مظاهرة استقبال سعد زغلول عند عودته من المنفى بسيشل عام 1923. وشارك زعماء الطوائف الدينية اليهودية فى الجنازة الشعبية المهيبة لسعد فى 24 أغسطس 1927, وأرسل يوسف قطاوى برقية عزاء إلى السيدة صفية زغلول. ولا أريد الاستطراد فى عرض هذا الموقف الوطنى لقطاع من المصريين اليهود فى سنوات ما بعد الثورة ويكفى الإشارة إلى نشاط المحاميين اليهوديين «موسى ديشى وايزادور فيلدمان» فى الدعوة لمطالبة الحكومة البريطانية بالانخراط فى مفاوضات جادة لاستكمال الاستقلال المصرى. وأنه فى عام 1935 عندما كانت مصر تموج بالمظاهرات من أجل إعادة العمل بدستور 1923, قام وفد من الجمعية المصرية للشباب اليهودى بمقابلة مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد وذلك لدعم مواقفه وتحدث منهم، الدكتور ألفريد يلوز الذى قال: ليس فى مصر أقلية أو أكثرية بل كلنا سواء فى الوطنية، مكررين ما سبق أن صممنا عليه وهو إلغاء التحفظ الخاص بحماية الأقليات من تصريح 28 فبراير 1922 فضلًا عن إلغاء بقية التحفظات، لأن اليهود ما برحوا متمتعين بنعمة المساواة والاخاء فلا حاجة بينهم إلى حماية انجليزية وغيرها وكفاهم دستور البلاد ضمانًا لأنه يتمتع الجميع بسخاء حرية العقيدة وحصانة الحقوق المدنية. وقد استقبلهم النحاس بحفاوة وقال لهم: المصريون كتلة واحدة فى سبيل مطالبهم, نحن مسرورون من هذا المظهر الرائع الذى لا يعرف الطائفية. والحديث عن ثورة 1919يطول، فهى الثورة الأم التى أضاءت شُعلة الوطنية المصرية وكرست مفهوم الوحدة الوطنية الذى تكون فيه مصر وطنًا لكل المصريين دون تمييز بينهم بسبب الدين أو الطائفة أو العرق أو أى سبب آخر. وهو المعنى الذى جسدته أغنية سيد درويش الخالدة «قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك» والتى ورد فيها حب جارك قبل ما تحب الوجود... إيه نصارى ومسلمين قال إيه يهود...دى العبارة نسل واحد من الجدود». لمزيد من مقالات د. على الدين هلال