كنت فى طريقى لمجلس النواب. ومارست عادتى التى يمكن وصفها بالوجع الذى لا شفاء منه. اشتريت صحفاً ومجلات وكتباً. فى قاعة الجلسة الرئيسية وضعت ما معى. ولأن الجلسة لم تكن بدأت. ذهبت لأجلس فى البهو الفرعونى. عندما عدت وجدت أن الكتب والصحف والمجلات تبعثرت. وعرفت أن زميلى الدكتور محمد عبده، نائب رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الوفد. أتى وقلَّب فى أوراقى كعادته ثم انصرف. وهو بالنسبة لى الصديق اللدود الذى لا يملك سوى الخلاف والاختلاف. عدت إلى البيت وجلست أتعرف على الكتب فى خلوة أعتبرها أسعد لحظات اليوم. وجدته قد اختار كتاب: أسرار ثورة 1919، يرويها سكرتير سعد زغلول، محمد كامل سليم. الكتاب الذى نشرته سلسلة كتاب اليوم. كتب الدكتور محمد عبده بخط يده على الصفحة الأولى من الكتاب: ثورة 1919 هى الثورة الحقيقية التى قام بها الشعب. بعد أن أعطى 3 ملايين توكيل لسعد زغلول ليطالب بالاستقلال. وقد أثرت على المجتمع المصرى بأسره بعد أن وحدت عنصرى الأمة. وأعطت المرأة دورها فى المجتمع لأول مرة. وأثرت على الفن والأدب والموسيقى والاقتصاد وخلفت رأيا عاما مستنيرا. وبسببها صدر تصريح 28 فبراير وصدور دستور 23، وقد خرجت هذه الثورة من رحم الأمة. ولذلك ستبقى ما دامت الأمة باقية. مع خالص تحياتى. د. محمد عبده. 11/3/19. نقلت الكلمة المعبرة عن حالتنا خلال هذا العام. بمناسبة مرور قرن على ثورة 1919، وقبل أن أسأل نفسى والنفس قد تكون أمَّارة بالسوء ولماذا لم نفعل الشىء نفسه عند احتفالنا بثورة 23 يوليو 1952؟ لكنى توقفت أمام أن عمر الثورة لم يكمل قرناً. عدت أسأل نفسى: ولماذا لم نفعله عندما مر قرن على ميلاد جمال عبد الناصر؟ وهذا القرن مر فى العام الماضى. تاهت ذاكرتى فى المقارنات. والذاكرة خوانة. وقد لا تكون لمن كان فى مثل سنى دقيقة. ربما فعلنا ونسيت. ربما حدث وتناسيت. ربما كان ما نفعله لثورة 1919 أمرا مطلوبا. فمن لا ماضى له ليس من حقه أن يقول إن له حاضرا وليس من حقه أن يكون له مستقبل. بعد أيام دعانى خالد ناجح، رئيس تحرير مجلة الهلال، لحضور حفل توقيع كتابه الأول: ثورة 1919 وهؤلاء. وذهبت إليه. فالكتاب الأول مثل الابن البكر. يظل يذكره الإنسان بفرحة لها طعم البكارة الأولى. مهما تهل بتجارب. ومهما يمر عليه الأيام وكرت عليه الليالى. جلست فى قاعة الاجتماعات الكبرى بدار الهلال عن يمينى الدكتور عاصم الدسوقى، وعن يسارى الشاعر شعبان يوسف. الأول مؤرخ منشغل بتاريخ مصر. والثانى أعتبره جبرتى الثقافة العربية. أقابله فاكتشف أنه يحمل أطناناً من الكتب. وربما كان عائداً من رحلة خارجية ويستعد لرحلة أخرى. الحضور كان كثيفاً. لم أتعود عليه فى ندوات أيامنا التى نتحدث فيها أحياناً فى مواجهة مقاعد فارغة. لكن القاعة رغم اتساعها لم تتحمل الحضور. اكتشفت من بينهم زميلنا الدكتور محمد الباز، رئيس تحرير جريدة الدستور اليومية. وصاحب البرنامج التليفزيونى اليومى أيضاً وإن كان أول الذين انصرفوا خلال الحديث. كتاب خالد ناجح الذى نشره فى سلسلة كتاب الهلال عنوانه: ثورة 1919 وهؤلاء. فيه تجميع دقيق وواعٍ لما نشر فى مجلة الهلال عن ثورة 1919. فربما كانت هذه الثورة الحدث الأكبر بعد صدور الهلال. صدر العدد الأول من الهلال 1892. أى أن الثورة قامت عندما كان عمر مجلة الهلال 27 عاماً. على أن الكتاب ليس الجهد الوحيد الذى قدمته دار الهلال واحدة من أعرق المؤسسات الصحفية القومية فى مصر كانت هناك محاولات أخرى. فمجلة الهلال يحتل غلافها سعد زغلول. والمانشيت الأساسى لها: 1919 مئوية ثورة الوطنية المصرية. فى العدد مقالات مهمة لعباس محمود العقاد عن شباب 1919، ودراسة لأمينة السعيد عن البطولة النسوية لثورة 1919، ويتساءل عاصم الدسوقى، ثورة 1919 بعد مائة عام لماذا لم يحقق ثوار 1919 أهدافهم؟ أما رشاد كامل فقد كتب من خلال حياته اليومية وسط الصحف والأوراق القديمة: سعد زغلول يرفض أن يكون ملكاً. ويطالب بإعلان مصر دولة ملكية أو جمهورية. أما الدكتور خالد عزب، فاختار أن يكتب عن محمد محمود باشا: العائلة والثورة والثروة. مجلة المصور، التى يرأس تحريرها الزميل أحمد أيوب، أصدرت عدداً خاصاً عن الثورة. وقدمت مفاجأة عندما أعادت نشر عدد قديم. أصدرته مجلة المصور بمناسبة مرور 50 عاماً على ثورة 1919. وسأتوقف أمام العدد القديم. تطالعك صفحاته القديمة كأنها تأخذك من أيامنا وتعود إلى الوراء نصف قرن. وهكذا يتكامل الحاضر مع الماضى فى الكتابة عن ثورة كانت مهمة. فى وقتها وما زالت لها أهميتها حتى الآن. وتبقى المصور مخلصة لاسمها. فالصور المنشورة سواء فى العدد القديم أو العدد الجديد تعكس تفرداً من نوع خاص. لا تقترب منه أى مؤسسة أخرى. وهو أرشيف مهم من الصور. وفى العدد القديم مقال لأحمد بهاء الدين، مأخوذ من كتابه: أيام لها تاريخ. أما العدد الجديد من المصور فقد تولت مسئولية تحريره الزميلة إيمان رسلان. وقدمت مجلة حواء التى ترأس تحريرها سمر الدسوقى، تحقيقاً رئيسياً: المرأة المصرية عام من النضال وحصاد المكتسبات. فمن المعروف أن ثورة 1919 شهدت أول خروج للمرأة المصرية مشاركة فى المظاهرات. وكان لها دور تعدى بكثير دعم الرجل فيما يقوم به. بل ربما كانت المرة الأولى فى تاريخ مصر الحديث التى تقف المرأة بجوار الرجل رأساً برأس فى حدث مهم. أكتب ما قلته فى ندوة دار الهلال أن احتفالنا بالثورة أخذ اتجاهاً واحداً. وهو تمجيد الثورة وزعيمها. مع أن الثورة فعل بشرى لا بد أن يكون له ما أنجزه ويؤخذ عليه ما لم ينجزه. وهو ما لم أره فى كل الممارسات الإعلامية والسياسية التى تمت خلال الاحتفال. لست ضد الاحتفال. لكن لا بد أن يكون جزءاً من الاحتفال أن نلقى على الماضى أسئلة الحاضر. وأن نتحرر من تقديسه. وننظر للماضى فى غضب. لمزيد من مقالات يوسف القعيد