لا تحدث الوقائع الكبرى فى التاريخ فى لحظة، حتى ولو كانت هذه اللحظة هى الشرارة التى اندلعت منها الأحداث، فلا يمكن للأحداث ولا للثورات فى المقام الأول ،أن تندلع لمحض شرارة، ما لم يكن قد سبقها زخم ومدّ جعل القلوب مطوية على رفض لما يجرى ويستوجب التغيير. والاحتفال بثورة 1919 فى شهر مارس، لا يعنى أن شرارة هذا الشهر هى كل الثورة ، وإنما هى قد تلبستها وتلبست التيار الشعبى الرافض الجارف الذى انطوت عليها نفوس الشعب المصرى. على عكس ما تصور الإنجليز وغيرهم ؛ بدأ المدّ الشعبى المصرى, فى ذات اللحظة التى تنكست فيها رايات الثورة العرابية واحتلت إنجلترا البلاد, بمباركة الخديو وبطانته ومعونته، فى سنة 1882. لا شك كانت النفوس كسيرة وقد جثم الاحتلال الغاشم على البلاد ، وتحكم فى الأقدار والأرزاق، وبدأت جرثومة الخذلان تعمل أثرها تحت ستار الحكمة والوثوق بالحضرة الخديوية ، وتفادى الاصطدام، وإيثار المهادنة الموادعة، تجنبًا للتداعيات!. كان هذا هو الحال المؤسف بعد هزيمة الثورة العرابية.. أرواح انطفأت، وخذلان يُغَذى فى الناس، وانسحاق أمام بطش وقوة سلاح المستعمر الغاشم الذى استخف بكل شىء حتى بالقيم الدينية. بيد أن الظاهر كان يخفى غضبًا شعبيًّا متصاعدًا، واقتناعًا يتنامى بأن الإنسان المصرى قادر على صنع مصيره، ولا يحتاج إلاَّ إلى من يحيى «الباعث» ويستجمع الهمم ويوحد الخُطَى. على خلاف سلبية المنخذلين أو المصانعين، كانت غالبية الشعب المصرى ترى المقاومة والنضال من أجل الجلاء والاستقلال. ووجدت بغيتها وأملها فى الشاب الناهض مصطفى كامل، الذى طفق يشعل الحماس، ويحرك السواكن، ويؤجج الروح الوطنية، ويطوف العالم داعيًا لقضية بلاده. كان مصطفى كامل السابق فى الجهاد الوطنى, كان يصغر سعد زغلول بسبعة عشر عامًا، وتغيرت بينهما النفوس حين انتقد سعدًا بشدة على انسحابه من لجنة مشروع الجامعة المصرية عقب تعيينه وزيرًا للمعارف. إلاَّ أن ذلك لم يمنع سعد زغلول من أن يقول فى خطبته يوم 19 سبتمبر 1923 بعد خمسة عشر عامًا من وفاة مصطفى كامل: «لست خالق هذه النهضة كما قال بعض خطبائكم . لا أقول ذلك ولا أدعيه، بل لا أتصوره. إنما نهضتكم قديمة، وللحركة العرابية فضل عظيم فيها، وكذلك للسيد جمال الدين الأفغانى وأتباعه وتلاميذه أثر كبير, وللمرحوم مصطفى كامل باشا فضل غزير فيها، وكذلك للمرحوم فريد بك». كانت كلمات سعد زغلول ، إقرارًا بحقيقة لا مجاملة فيها، فلم ينشأ المد الشعبى الذى أنتج ثورة 1919 فى لحظة، وإنما تشكل وتصاعد على مر السنين،أسهم فيها هؤلاء الذين ذكرهم، وأسهم فيها الشعب بأوفى نصيب. هذا المد الشعبى هو فى الحقيقة سر ثورة 1919، وبه ظلت الثورة حيّة ، وإليه تساندت الحركة الوطنية التى أدت فى النهاية إلى الشرارة التى اندلعت بها الثورة. بدأت الإرهاصات يوم لقاء الزعماء الثلاثة: سعد زغلول وعلى شعراوى وعبد العزيز فهمى مع المندوب السامى البريطانى السير «رجنلد ونجت» فى 13 نوفمبر 1918 ، وتأكيدًا لصفتهم بالتحدث عن الشعب المصرى، اتفقوا عقب المقابلة على تأليف الوفد المصرى من تسعة فى البداية برئاسة سعد زغلول، ووضعوا له ميثاقًا ثم نبتت فكرة التوكيلات لاستكمال الصفة، فتجاوب معها المدّ الشعبى، وأعطى التوكيلات رغم مقاومة ومعاكسات السلطات، ومن ثم صار المد الشعبى فى ظهر الوفد والحركة الوطنية. اشتركت فى هذا المد الشعبى كل طوائف الأمة، وتوحدت على هدف واحد ، فرأى الناس الصليب بجوار الهلال، والقساوسة بجوار الشيوخ، وخرج الموطنون والعمال والفلاحون، واشترك طلاب كلية الحقوق والمعاهد العليا إلى جوار المحامين، وأضرب المحامون وانطلقت شرارة الثورة من مدرسة الحقوق، وخاض الغمار خطباء الثورة من المحامين، وامتد الظهير الشعبى إلى خارج البلاد، فقرع أسماع العالم بما يجرى فى أرض الكنانة ، وكان من هذا المد الشعبى محاكمة قادة العمل السرى: عبد الرحمن بك فهمى ورفاقة أمام محكمة عسكرية انجليزية ، فيما سمى قضية المؤامرة الكبرى، وطاله وغيره حكم الاعدام لولا تخفيضه إلى السجن خمسة عشر عامًا، وكان من بين المحكوم عليهم طالب الحقوق إبراهيم عبد الهادى الباشا أبرز أعضاء الهيئة السعدية والوزارة فيما بعد، وتبعتها محاكمة ماهر والنقراشى وغيرهما فيما عُرف بقضية الاغتيالات الكبرى، وأعدم فيها فهمى عامل العنابر، وسُجن غيره، وعبّر هذا المد الشعبى عن وحدة جميع طوائف الأمة. هذا المدّ الشعبى هو الذى ساند سعى الزعماء فى 20 نوفمبر 1918 لتمكينهم من السفر إلى انجلترا للحاق بمؤتمر الصلح لعرض المطالب المصرية فى ضوء المبادئ التى أعلنها الرئيس الأمريكى ويلسون وآلت فى النهاية إلى سراب, ولكن سلطات الاحتلال أفصحت, بعد مماطلات, عن رفض الترخيص بالسفر . فاعترض الوفد وفى ظهره المدّ الشعبى يسانده ويقويه، ووجه الوفد نداءً إلى معتمدى الدول الأجنبية، وعُقِدَ اجتماعٌ صاخب بدار حمد الباسل باشا فى 13 يناير 1919، وتلاحقت الأحداث ، فرحل السير ونجت عن مصر ، واشتدت الحركة الوطنية، وألقى سعد زغلول خطابًا حاشدًا فى 7 يناير 1919 بدار جمعية الاقتصاد والتشريع، واستقالت وزارة رشدى باشا احتجاجًا ، فى أول مارس 1919 ، وكتب الوفد كتاب احتجاج إلى السلطان اعتراضًا على قبول استقالة الوزارة، وعدّها معاونة للسياسة البريطانية لإذلال الشعب، واحتج الوفد ووراءه الظهير الشعبى لدى معتمدى الدول ، فأنذرت السلطات العسكرية البريطانية أعضاء الوفد فى 6 مارس 1919، فلم يتراجعوا أمام هذا الإنذار، فقامت سلطات الاحتلال باعتقال سعد زغلول وثلاثة من صحبه : محمد محمود باشا، وإسماعيل صدقى باشا ، وحمد الباسل باشا. كان هذا الاعتقال هو الشرارة التى اندلعت بها ثورة الشعب المصرى كالطوفان فى 9 مارس 1919 ، أما أحداث وأبطال الثورة مع هذا المدّ الشعبى، وماذا حققته الثورة وماذا فاتها ، فتلك حكاية أخرى قد نعود إليها. لمزيد من مقالات رجائى عطية