والتعبير للرئيس عبدالفتاح السيسى. سمعته يقوله فى إحدى الندوات التثقيفية لقواتنا المسلحة فى جلسة كانت مخصصة للشهداء. كان الشهداء هم الأكثر حضوراً منا نحن الحاضرين بأجسادنا. لكنهم كانوا حضوراً بحكاياتهم ودمهم وبطولاتهم النادرة. طوال الاحتفال كنت أشعر أننا هنا نجلس، نستمع، نتابع. بفضل ما قدموه لنا. ولولاه ما كنا هنا. لا يوجد أقدس ولا أنبل من فكرة الاستشهاد. فالشهيد أكثر مصرية منا جميعاً. وليس فى هذا أى مزايدة. فنحن لم نتعرض لما تعرض له. لكنه أيضاً واجه قدره ومصيره بشجاعة نادرة. خصوصاً عندما يكون الشهيد مصرياً. فمصر هى البلد الذى اخترع حب الحياة وصنع السعادة وإبداع كل ما هو جميل فى الدنيا. توقفت أمام استشهاد ستة عشر من أبناء قواتنا المسلحة الباسلة والعظيمة. وحدثت لى حالة شجن أمام كونهم جميعاً من الشباب. قائدهم ضابط فى السادسة والعشرين. وبقية المجندين الخمسة عشر كانوا فى العشرينيات. ينتظرون التسريح من الخدمة خلال أيام. ومع هذا رابطوا فى أماكنهم واعتبروا أنهم فى مهمة دفاع عن الوطن. حسابات مدة الخدمة والتسريح لا تعنيهم فى شىء. لكنهم لا يملكون سوى الدفاع عن التراب المصرى. أقدس ما فى حياة المصريين. فى ديسمبر 2017، أصدرت مجلة الهلال التى يرأس مجلس إدارتها مجدى سبلة. ويرأس تحريرها خالد ناجح. عدداً انفرد بغلافه أحمد منسى. وفى العدد القصائد واليوميات التى كتبها أحمد منسى - مولود سنة 1977 - بخط يده. حصلت عليها المجلة من إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة التى كتبت عما تقوم به يوما: عبقرية المجهود. والشعر المنشور فى العدد كان فى كشكول صغير بسيط. طوله 16 سم وعرضه 22 سم. وفيه كتابة بخط يد أحمد منسى. وشخبطة كتبها ابنه حمزة. الذى كان يحاول حل مسألة حسابية بمعاونة الأب الذى عاد للتو من سيناء. أرض الفيروز. وهناك كشكول آخر عليه توقيع صاحب الكشكول الأول أحمد صابر محمد على منسى. الصاعقة. غلافه أسود يميل إلى اللون البنى الفاتح. ومُدوَّن الكشكولين أحمد منسى، قائد الكتيبة 102 صاعقة بشمال سيناء. والذى قدم روحه فداء لوطنه. والقصائد التى تركها تتنوع بين الفصحى والعامية. والموضوعات إما ذاتية وإما حماسية تناجى قيم البطولة والشرف وحب الوطن والعروبة. وأخرى هجائية تنتقد خسة من يتاجرون بالدين. وهم فى الحقيقة عبيد لشياطين القتل والخراب والتدمير. فى وسط القصائد رسالة كتبها البطل الشهيد إلى العدو. فيها شكر له. لأنه بخسته وندالته وانحطاطه أتاح لأحمد منسى ورفاقه أن يدخلوا أرض سيناء المروية بدماء الآباء والأجداد: شكراً لك أيها العدو. لأنك أدخلتنى فى كل شبر فيها. ثم يقول: حايروح مننا واحد فى غيره ألف بيستنوا دورهم فى الشهادة. إكدب براحتك. بس أقسم بالله مالكش عيش فيها طول ما احنا فيها. وفى قصيدة بتاريخ الثالث والعشرين من نوفمبر 2018، يكتب: شبل أنا فى عرين الأسود وعلى الأسود رعاية الأشبال صعقة الأسود فى سيناء وبكل شبر فى طيبة يخطو الرجال على خط النار أولى القلاع نزود ونحمى بصبر الجمال أنا يا عدو سيف الله فى الأرض فضلنا الميدان والزمان سيجال ويكتب: أتضيع بلدى وما زلت حيا فيا ليت الممات يطوينى طيا وما حب مصر إلا عطاءا أهبها روحى ما أعطيت شيا أرى من الأفق فجرا قد بزغ وعبث لعين بما أتى من ضيا يا ثورة الأحرار أبالفرح جئتى؟! أم بهمى وغمى وقتل حيا فيا عامراً وطنى رهن إرادتك دمى لأجلك يروينى ريا كل قصيدة مدونة بخط البطل الشهيد. يدون عليها تاريخ كتابتها. وكلها مكتوبة سنة 2013، ولأنه يدافع عن مصر فيبدو مشغولاً بها. مصر ميم مواطن مغلوب والصاد له صبر مالى القلوب الره ريادة آخ نسيت والره حتبقى ربنا يعيننا خليها ميم مستقبل لجيلنا خليها صاد صبرنا ونلنا صاحب الشعر لم يكن شاعراً محترفاً. فلا يحدثنى أحد عن القوافى والأوزان وبحور الشعر المعروفة. لأن الصدق هنا أهم ما يقدمه هذا الشعر. وهو يهدم النظرية العربية القديمة التى تقول: أجمل الشعر أجذبه. أحمد منسى يعلمنا أن أجمل الشعر أصدقه. وأن الصدق عملة نادرة لا يمتلك الوصول إلى تجلياتها إلا قلة. يكتب: يا قبورا تنادى أسامينا ويا موتاً يعرف كيف يصطفينا سطوة الموت لن تغير لقبنا فنحن أحياء للشهادة سائلينا مهنتى الشرف والمجد أمنية وحب القلب للقلب يرضينا ويكمل: قد قضيت فى الأمانى عدد سنين وكم قضينا عن الأرض مدافعينا وكم قضيت هروباً من الموت وكم قضينا عن الموت باحثينا نبحث عن الموت أينما وجد وفى الجنة مع إخوة سابقينا أرجوك أن تقرأ - عزيزى القارئ - البيتين القادمين بصوت عالٍ لتدرك ما يقف وراء الكلمات: من كان بلا عقيدة فليغادر حق عليك واسأل المقاتلينا الله أكبر للقلب طرباً وذكر الله خير الحافظينا هل رأيت أن الارتباط بالوطن والذوبان فى كيانه يمكن أن يكون طريقاً لمن خلق الدنيا وأبدع الآخرة. وأن لحظة الدفاع عن الوطن لا تتوجها روح أكثر من الإيمان الذى يشكل السند للإنسان يستند إليه فى رحلة بحثه عن اليقين. بدأت أكتب مقالى عندما دار فى خيالى عنوان الرواية القصيرة للروائى الجزائرى المؤسس الطاهر وطار: الشهداء يعودون هذا الأسبوع. وفيها تخيل فنتازى لعودة شهداء حرب التحرير إلى الجزائر بعد سنوات من الثورة لكى يروا أحوال البلاد والعباد ويتابعوا ما تم فى غيابهم. وليدركوا أن كل قطرة دم سالت كانت فى مكانها وزمانها الصحيحين. شعب بلا ذاكرة، هو شعب بلا تاريخ. والحمد لله أن الذاكرة الوطنية أقوى ما فينا. وأن تاريخنا القديم والوسيط والحديث يطارد كل لحظات حاضرنا. ونعيشه ربما أكثر من توقعاتنا لما يمكن أن يحدث لنا فى المستقبل. ما أجمل أن يعيش الإنسان فى الماضى. بشرط أن يتعلم من هذا الماضى. وأن يأخذ دروسه لتساعده على التعامل مع الحاضر والحلم بالمستقبل. لمزيد من مقالات يوسف القعيد