لقد كانت القاهرة (أسسها المعز لدين الله الفاطمى عام 969م بعد أن توطدت الدولة الفاطمية فى حكم مصر) من أهم الحواضر فى العالم الإسلامى، فهى عاصمة مصر، البلد الذى يقع فى قلب الدنيا. وهى مكان للحكم والإدارة لعدد من الخلافات الإسلامية، وهى عاصمة البلد الأغنى والأوفر سكانًا، والأقدم حضارة بين البلدان التى شكلت العالم الإسلامى. ويمكن أن نتعرف على مكانة القاهرة وحضورها التاريخى من أوصاف المؤرخين لها. فقد وصفها ابن خلدون فى القرن الرابع عشر بأنها حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم من البشر، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام وكرسى الملك، تلوح القصور والأواوين فى جوه، وتزدهر الخوانق والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه. هذه الأوصاف تكشف حال القاهرة فى المجتمع التقليدى بوصفها حاضرة عامرة، دالة بشكل كبير على حال المجتمع المصرى. ولقد ظلت القاهرة فى المجتمع الحديث تعبر عن هذا الازدهار، بل إن التحول العمرانى الذى حدث بها إبان القرن التاسع عشر، وبتأثير من السياسات العمرانية للخديو إسماعيل (1830- 1895) قد حولها إلى حاضرة حديثة تضم المدينة القديمة التى تمتد من جنوبالقاهرة إلى شمالها الشرقى، والمدينة الحديثة التى تضم سكن الطبقة الوسطى الناشئة والتى تجمل مركزها بعمارات بنيت على طراز أوروبى متميز وشوارع واسعة، وأسواق تجارية حديثة. فقد ظلت القاهرة تتنفس شهيقًا وزفيرًا مع كل تغير يطرأ على المجتمع. فمع قدوم الاستعمار والتوسع فى الأجهزة البيروقراطية للدولة، واشتداد عود الطبقة الوسطى التى بدأت مع مطلع القرن تضطلع بدور فى عمليات التحديث، كان من الطبيعى أن تتمدد القاهرةالإسماعيلية فى أحياء جديدة تناسب تطلعات الطبقة الوسطى التى أصبحت أكثر قوة مع بداية القرن العشرين، حيث نشأت أحياء مصر الجديدة والزمالك وجاردن سيتى والمعادى. ولكن التحول الكبير جاء مع بداية ثورة 1952، التى فتحت أفقًا لتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى وتضخمها من خلال التوسع فى التعليم العام والتعليم الجامعى وضمان مجانيته، وكذلك التوسع فى التوظيف الحكومى لخريجى الجامعة والتوسع الصناعى فى منطقتى شبرا وحلوان. لقد أدى كل ذلك إلى وجود طلب كبير وملح على السكن داخل المدينة، فكان التوسع العمرانى ضروريًا. فبدأ التمدد غربًا فى منطقة الدقى والمهندسين، والمنطقة الممتدة حتى أهرامات الجيزة، وبدأ التمدد شمالًا وشرقًا فى مدينة نصر. لقد نمت هذه المناطق بسرعة وشكلت أماكن لسكنى الطبقة الوسطى الجديدة. ولقد اتخذت طابعًا عمرانيًا مختلفًا، فبدأت تظهر العمارات ذات الطراز المعمارى المختلف، الذى لا يهتم كثيرًا بالأبعاد الجمالية والمساحات الخضراء. ومن التغيرات الأخرى المهمة انتشار الأحياء المكتظة بالسكان على أطراف القاهرةالجنوبية والغربية والشمالية. لقد لبت هذه الأماكن احتياجات المهاجرين الجدد من العمال، والفئات الأدنى من الطبقة الوسطى. وكان التمدد لهذا النمط العمرانى كبيرًا وسريعًا. لقد هجمت هذه الأحياء على الأرض الزراعية فالتهمت أجزاء كبيرة منها ليبنى عليها أحياء تستوعب كل يوم أفواجًا جديدة من المهاجرين من الريف، أحياء ذات شوارع ضيقة ومبانٍ ذات طوابق متعددة، بحيث أصبحت القاهرة محاطة بكتل عمرانية مكتظة بالسكان، وذات طابع حضرى متخلف إلى حد كبير، كما تخللتها قرى قديمة تحولت هى الأخرى إلى مناطق أكثر عشوائية وأكثر تخلفًا. ومع دخول حقبة السبعينات من القرن العشرين، وبداية سياسة الانفتاح الاقتصادى، بدأ النمط العمرانى للمدينة يأخذ شكلًا جديدًا. لقد حدثت هنا تغيرات مهمة فى بنية سوق العقارات، وأصبحت تجارة العقارات أكثر صنوف التجارة ربحًا، كما أصبحت ملكية العقارات (الأرض أو المبانى السكنية الكاملة أو الوحدات داخل المبانى أو المحال التجارية) إحدى الوسائل المضمونة لتحقيق مزيد من الأرباح والفوائد. لقد خلقت سياسة الانفتاح الاقتصادى ثقافة جديدة (تبنتها الطبقة الوسطى بسرعة) تقيّم كل شيء بسعره النقدى، وتضرب بعرض الحائط بكل الاعتبارات العاطفية والمعنوية. وعلى خلفية هذه التغيرات، وعلى خلفية الطلب المتزايد على الحصول على سكن أو على عقارات للمتاجرة وجنى الأرباح، تشكلت حول المدينة وداخلها تمددات جديدة بنمط عمرانى جديد، وتمثلت هذه التمددات فى إنشاء مدن جديدة حول المدينة طوقت المدينة من كل الاتجاهات تقريبًا، وقدمت هذه المدن نمطًا عمرانيًا جديدًا يقوم على اتساع الشوارع، وانخفاض ارتفاع المبانى، ولكنه يقدم صورة نمطية لعدم التجانس فى الشكل المعمارى الجمالى وألوان المبانى. وصاحب هذا التمدد فى المدن الجديدة عمليات هدم لبعض الفيلات فى أحياء الطبقة الوسطى الأقدم، وإعادة بنائها فى أبراج سكنية عالية. ولقد حول هذا السياق فى الهدم والبناء القاهرة بأحيائها المختلفة إلى كتل من العمران الأسمنتى ذى الألوان الترابية الذى يفتقر إلى أدنى معايير الجمال. ولكن الظاهرة العمرانية الأكثر بروزًا فى هذا التمدد العمرانى الجديد تتمثل فى بناء التجمعات المسيجة داخل هذه المدن الجديدة، وأصبح الطموح الأكبر لأبناء الطبقة الوسطى، خاصة الشريحة المتميزة منها، أن تحصل على مسكن داخل هذه المجتمعات المسيجة، والتى يشكل كل منها عالمًا مستقلًا بذاته، لا يلتقى سكانه مع بقية سكان المدينة إلا فى السوق. ولقد صاحب هذا التغير فى النمط العمرانى ظهور أنماط جديدة من الأسواق المعولمة التى انتشرت على أطراف المدن الجديدة، أو فى قلب الأحياء الأقدم. وتشكل هذه الأسواق مراكز تجارية ضخمة يمكن للمستهلكين فيها أن يحصلوا على ما يرغبون فيه من ماركات عالمية أو أطعمة مختلفة الألوان والأسعار أو سلع ومستلزمات منزلية، كما يمكن لهم أن يستمتعوا بأوقات للترفيه. لقد تفاعلت القاهرة مع التحولات التاريخية الحديثة، التى استغرقت أكثر من قرنين من الزمان، تمددت شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، واتسعت أرضها لبشر من مختلف الطبقات، وتنوعت فيها الهويات والثقافات. وعلى قدر ما أصابها من توسع وازدهار على قدر ما أصابها من عطب. فالعمران هو البشر الذين يقيمون، فيه اجتماعهم الإنسانى، وهو دالة وجودهم وسمت حياتهم. وعندما ننتقل من الحجر إلى البشر فى تباينهم واختلافهم، أو فى تفاعلاتهم وصراعاتهم، وفى علاقاتهم غير الحميمة مع البيئة الحضرية المحيطة بهم فسوف يكون لنا كلام آخر. لمزيد من مقالات د. أحمد زايد