مرة أخرى، تجاوز الرئيس الأمريكى دونالد ترامب صلاحياته وفق كل التوقعات، وفاجأ- ليس أمريكا فقط- العالم كله بإعلان حالة الطوارئ الوطنية، لبناء جدار حدودى مع المكسيك لمنع آلاف البائسين العالقين على الحدود من دخول الولاياتالمتحدة. بالتأكيد، إعلان الرئيس الأمريكى للطوارئ الهدف الرئيسى من ورائه هو حفظ ماء الوجه، بعد فشله الذريع فى التوصل إلى اتفاق مع الديمقراطيين يسمح له ببناء جداره دون الحاجة إلى التورط فى إغلاق حكومى جديد. خاصة، وأن الأرقام تشير إلى أن الإغلاق السابق وهو الأطول فى التاريخ كلف البلاد ما يتراوح بين 8 و11 مليار دولار، وتسبب فى حالة من الفوضى غير المسبوقة للبلاد. ولكن ما العواقب المترتبة على هذا التلاعب غير المحسوب بالدستور للالتفاف على الكونجرس؟ هل يقوض ترامب بذلك الديمقراطية الأمريكية؟ وما موقف الجمهوريين من طوارئ ترامب المثيرة للجدل؟ وفقا للدستور الأمريكي، يحق للرئيس إعلان الطوارئ فى حالات الكوارث والأزمات والحروب. ولكن، وفقا للدستور الأمريكى أيضا، فإن الديمقراطية الأمريكية مبنية على ثلاث مؤسسات، التنفيذية متمثلة فى رئيس الدولة، والتشريعية ويمثلها الكونجرس، وأخيرا القضائية. وكل منها له دور منفصل عن الآخر. ولا يصح لأى منهم تجاوز الأخرى أو التعدى على سلطاتها. فالقضاء رقيب على الكونجرس والكونجرس رقيب على الرئيس. واحترام هذه المؤسسات هو أهم ما يميز الديمقراطية الأمريكية. ولكن ترامب ضرب بهذه القواعد الراسخة عرض الحائط وأساء استغلال سلطاته وصلاحياته الرئاسية بإعلانه الطوارئ، لتنفيذ قرار لم يحظ بدعم وموافقة السلطة التشريعية فى البلاد. خاصة، وأن ترامب نفسه اعترف بأن الوضع على الحدود لا يستدعى سرعة فى التحرك. وهو ما يعنى أنه بغض النظر عن التهديد الذى قد يشكله هؤلاء اللاجئون، إلا أنهم لا يمثلون خطرا حقيقيا أو محدقا. ولا يمكن اعتبارهم تهديدا للأمن القومي. وبالتالى فإعلان ترامب يعد انتهاكا لبند الفصل بين السلطات. ولكن تجاوز السلطات ليس بالجديد بالنسبة لترامب، فقد سبق وأعلن خططه للانسحاب من سوريا محددا مدة زمنية معينة، بدون العودة لقيادات الجيش على الأرض أو حتى لقادة وزارة الدفاع «البنتاجون». وهو ما نتج عنه موجة من الاستقالات فى الجيش الأمريكى احتجاجا على تجاهل الرئيس لهم لدى اتخاذ مثل هذا القرار الحساس. وهو ما اعتبره الخبراء قرارا يهدد الأمن القومى لإخلاله بالمصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط. وترتب عليه حالة من التخبط فى التصريحات وبلبلة كانوا فى غنى عنها. ومن ناحيتهم، كان موقف الديمقراطيين واضحا وسريعا. فقد أكدوا عدم دستورية القانون وبدأ مجلس النواب ذو الأغلبية الديمقراطية فى التحرك فورا لإعداد مشروع قانون معارض لطوارئ ترامب، فى حين وجهت اللجنة القضائية بالمجلس استدعاء عاجلا للبيت الأبيض ووزير العدل. ولكن المأزق الحقيقى كان من نصيب الجمهوريين، الذين وجدوا أنفسهم فى وضع لا يحسدون عليه. فهم محاصرون بين شقى رحى، إما تأييد الرئيس ومواجهة حرج قانونى وسياسى وشعبي، وإما الانقسام والتفتت فى وقت تستعد فيه أمريكا لجولة جديدة من الانتخابات الصاخبة. وبالطبع، لم يكن أمام الجمهوريين سوى اختيار الوحدة ولو ظاهريا. فمنذ صعود ترامب إلى السلطة والجمهوريون يعانون الانقسام والخلاف الداخلي، ما بين مؤيد ومعارض له. فهناك من يرى أن ترامب يحظى بقاعدة شعبية لا يجب خسارتها، وهناك من يرى أنه انتهاك صارخ للمبادئ الحزبية والسياسية. ولا يمكن أن نتجاهل حقيقة أن إعلان ترامب سيسمح له بالاستحواذ على ميزانية البنتاجون وإعادة توجيهها لبناء الجدار، وذلك بالرغم من أنه مارس على مدار العام الماضى ضغوطا واسعة لضمان تخصيص 750 مليار دولار كميزانية للجيش وهى الأكبر من نوعها فى التاريخ الأمريكي، بدعوى أن ترسانة الأسلحة الأمريكية فى حاجة إلى تحديث، متعهدا بإحياء دفاعات البلاد النووية وتعزيز قوتها الالكترونية وإنشاء قوة فضائية جديدة. ولكن يبدو أنه ضرب بهذه الوعود عرض الحائط. فى واقع الأمر، إعلان ترامب للطوارئ هو أكبر صفعة تتلقاها المؤسسة الديمقراطية الأمريكية، وسيمثل سابقة يحتذى بها رؤساء أمريكا القادمون. فالأمريكيون دفعوا ثمن الإغلاق الحكومى ملايين الدولارات وحالة غير مسبوقة من الفوضى، ولكن الطوارئ ستكون تكلفتها باهظة للغاية. فالثمن هو الديمقراطية الأمريكية.