مؤتمران متزامنان عكسا الخلل العربى فى التعامل مع القضية الفلسطينية، الأول مؤتمر وارسو حول الشرق الأوسط، الذى شهد دعما من بعض الأطراف العربية لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو، وتبنيا لرؤيته المبنية على أن الخطر الإيرانى وليس الإسرائيلى هو التهديد الحقيقى للعالم العربي، وهو ما شجع نيتانياهو على تسريب مقطع فيديو مدته 25 دقيقة لإحدى جلسات المؤتمر المغلقة، يدافع فيه وزراء خارجية ثلاث دول عربية عن اسرائيل ويهاجمون إيران. ولم يكن غريبا فى هذا السياق أن يقول أحد هؤلاء إن مواجهة إيران تعد أكثر إلحاحا من حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وأن يشير آخر إلى حق إسرائيل فى مهاجمة أهداف إيرانية فى سوريا، وأن يؤكد ثالث أن أنشطة إيران العدوانية تقوض الاستقرار بالمنطقة على نحو يستحيل معه تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وفى الوقت نفسه بالضبط، كان الرئيس السيسى يتحدث امام مؤتمر ميونيخ للأمن، مؤكدا أن عدم تسوية القضية الفلسطينية بصورة عادلة ونهائية، يمثل المصدر الرئيسى لعدم الاستقرار فى الشرق الأوسط، ولابد من تضافر حقيقى لجهود المجتمع الدولي، لوضع حدٍ طال انتظاره لهذا الصراع، وفقاً للمرجعيات الدولية ذات الصلة والمتوافق عليها، وإعمالاً لمبدأ حل الدولتين، وحق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتُها القدسالشرقية. قد يبدو أن هناك تحركات عربية مختلفة يحدد كل منها مدى أولوية حل القضية الفلسطينية تبعا لمنظور كل دولة عربية، لكن المفترض أن هناك مرجعية واحدة تم التوافق عليها فى هذا الموضوع، هى مبادرة السلام العربية التى أقرتها قمة بيروت العربية عام 2002، وتم تأكيدها عام 2007، وظلت لسنوات طويلة الهدف الذى يعمل العرب على تحقيقه للوصول إلى تسوية عادلة ونهائية للقضية الفلسطينية. وتأسست هذه المبادرة انطلاقا من اقتناع عربى بأن الحل العسكرى للنزاع لم يحقق السلام أو الأمن لأى من الاطراف، فوضعت إجراءات محددة مطلوب من إسرائيل القيام بها، مقابل إجراءات محددة أيضا تقوم بها الدول العربية، وبمعنى آخر الأرض مقابل التطبيع الشامل، فالإجراءات المطلوبة من إسرائيل تتضمن الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة بما فى ذلك الجولان السورى وحتى خط الرابع من يونيو 1967، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضى الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو 1967 فى الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدسالشرقية.وفى المقابل تتعهد الدول العربية باعتبار النزاع العربي-الإسرائيلى منتهيا، والدخول فى اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، وإنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل فى إطار هذا السلام الشامل. لكن لأسباب كثيرة يتعلق معظمها بالتعنت الإسرائيلى والدعم الامريكى المستمر لتل أبيب، فشل العرب فى تنفيذ مبادرة السلام، ثم تسارعت التطورات فى المنطقة لتظهر أخطار أخرى تهدد الأمن القومى العربى على رأسها انتشار الأفكار المتطرفة والجماعات الإرهابية، ومحاولات هدم الدولة الوطنية وإشاعة الفوضي، وظهور مشاريع كثيرة غير عربية تسعى للهيمنة على المنطقة، أبرزها المشروع الإيراني. وهذه التحديات يمكن أن تشكل أيضا حافزا لدى البعض لتعزيز التعاون بين دول الشرق الأوسط بما فيها إسرائيل، باعتبار أن هذه التحديات تشكل مصدر خطر على كل دول المنطقة، وأن التعاون فى مواجهتها سيفيد الجميع، وإذا كانت إسرائيل, تساندها الإدارة الامريكية, استمرت فى تعنتها ورفضها للمبادرة اعتراضا على بعض ما جاء فيها، خاصة ما يتعلق بالقدس واللاجئين، فإن التطورات المتسارعة فى المنطقة شجعت بعض الدول العربية على الانفتاح على إسرائيل دون انتظار تنفيذ متطلبات مبادرة السلام العربية. فالجماعات الإرهابية المتطرفة تشكل خطرا على الدول العربية وإسرائيل معا، خاصة إذا كانت تجد حاضنة سياسية وإعلامية ومالية من بعض الدول لأجندات خاصة بها، وبعد أن نجحت فى السيطرة على مساحات من الأراضى فى بعض الدول العربية مثل ليبيا وسوريا والعراق، وتحاول فرض نفسها على أى تسوية سياسية لبعض الأزمات العربية، إلى جانب توسع المشروع الإيرانى ووجوده بقوة فى اليمن ولبنان وسوريا والعراق، فصار هدفا مشتركا لعدد كبير من العرب وإسرائيل. وتزامن ذلك مع تطورات الأوضاع فى سوريا التى اصبحت فى حالة لا تسمح لها بقيادة أى محاولة عربية لإفشال أى اتفاق تسوية فلسطيني-اسرائيلي، وسيبقى وضع الجولان رهنا بتطورات الأوضاع فى سوريا، والشكل الذى ستكون عليه الدولة السورية بعد التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة الحالية بها، ومدى علاقة إيران بهذا الشكل، وبناء عليه فإنه إذا كان من الصعب التوصل إلى تسوية للنزاع العربي، الإسرائيلى بوجه عام دون موافقة سوريا ولبنان، فإن هذا الأمر ليس له علاقة بإمكانية التوصل إلى اتفاق سلام فلسطيني-إسرائيلي. من ناحية أخرى شهدت السنوات الأخيرة ظهور قيادات عربية جديدة فى بعض الدول تسعى إلى تثبيت أقدامها، عبر طرح مشروعات سياسية واقتصادية لإعادة صياغة البيئة الجيوسياسية فى المنطقة، مع التركيز على الجانب الاقتصادى واعتباره القاعدة المثلى لقيام تعاون كبير بين دول الشرق الأوسط، يمكن أن يسهم بشكل كبير فى حل المشكلات السياسية المستعصية بعد أن يدرك الجميع مدى استفادتهم الضخمة من التعاون الاقتصادى المطروح، وهو ما يتناسب مع مبادرة السلام العربية التى توافق على ذلك إذا نفذت إسرائيل ماهو مطلوب منها لقيام دولة فلسطينية مستقلة على أراضى 1967 عاصمتها القدس، ولكن هل تستطيع إسرائيل أن تفعل ذلك؟ ما يحدث الآن أن بعض الدول العربية تقدم تطبيعا مع إسرائيل بلا ثمن، فى سبيل تشكيل جبهة قوية بالمنطقة لمواجهة إيران التى تعتبرها خطرا وجوديا عليها، ولكن التعامل العربى مع إسرائيل يجب أن يعود إلى قاعدته الأساسية التى تم التوافق عليها، وهى مبادرة السلام العربية، ومن المهم أن يطرح هذا الأمر للنقاش فى قمة تونس العربية المقبلة، لتكون هناك خطة عربية واحدة يسير عليها الجميع، وتحقق متطلبات الأمن القومى العربى، بدلا من التحركات الفردية. لمزيد من مقالات فتحى محمود