الرأى عند علاوى مؤلف كتاب أزمة الحضارة الاسلامية أن هذه الأزمة عمرها قرنان من الزمان ولم تنته بعد. أما الاسلام من حيث هو دين وأسلوب عبادة لدى ملايين من المؤمنين فمازال حياً وعلى ما يرام. أما الغرب فالرأى عنده أن الاسلام السياسى وما ينطوى عليه من مظاهر سياسية عنيفة يسبب ازعاجا له غير الاسلامي. وإذا كان ذلك كذلك فأين تكمن الأزمة برمتها؟ جواب هذا السؤال يستلزم فى البداية تحديد إطار مرجعي، وهذا الاطار المرجعى يدور حول أن الحضارات تمارس إحداث توازن بين الفرد والجماعة، وبين هذه الحياة الدنيا والحياة فى الآخرة. وكل حضارة لها حرية الاختيار فى الانتقال من إحدى هاتين الحياتين إلى الأخري، وهى فى هذا الانتقال تفوح منها نكهة متميزة. فالطغيان الشرقي، على سبيل المثال، يتأسس على تمجيد الحاكم الفرد إلى حد العبادة. أما فى الحضارة الرومانية فقد كانت فضائل المجتمع متمثلة فى المؤسسات التى تنشئها الجماعات مثل مجلس الشيوخ. ولكن عندما تحولت هذه الحضارة إلى قوة امبريالية خضع ذلك المجلس إلى أوامر وقرارات الامبراطور الرومانى بلا تردد. وحتى الأديان ذاتها مارست إحداث ذلك التوازن. فالبوذية متفردة بتحريض الفرد على العزلة إذا أراد تحقيق ذاته فى حين أن اليهودية تنشغل بالمسار الجماعى الروحى والدنيوى معاً للشعب اليهودي. أما فى المجتمعات الحديثة فثمة توتر فى إحداث التوازن بين الفرد والجماعة. الفرد ينشد الاستقلال ومعه الحرية، والجماعة تريد فرض أحكامها على الفرد. وفى التسعينيات من القرن العشرين توارى ذلك التوازن إذ تجاوزته علاقة جديدة بين الارهاب والأديان بوجه عام وبين الارهاب والاسلام بوجه خاص على نحو ماورد فى كتاب هنتنجتون الذى كان موضع اهتمام من النخبة الثقافية والسياسية والذى كان عنوانه: تصادم الحضارات وإعادة بناء نظام عالمى (1996). دلل فيه على عجز الاسلام عن التكيف مع الحداثة التى محورها التنوير. وجاءت أحداث 11/9 التى قام بها نفر من الأصوليين الاسلاميين بتدمير مركز التجارة العالمى بنيويورك تدلل على صحة رأى هنتنجتون. وسواء كان رأيه صحيحا أو غير صحيح فقد كان رد الفعل من قبل العالم الاسلامى البحث عن عصر ذهبى كان قد مر به ذلك العالم فتم استدعاؤه. ومن هنا شاع الحنين إلى المدينة الفاضلة التى كان قد ارتآها الفيلسوف الاسلامى الفارابي. وهى مدينة كان حنينها يتمركز حول تأسيس اليقين المطلق من أجل الخروج من حاضر محال تجاوزه، ومن ثم ظل مجرد حنين. والسؤال إذن: ماذا كان ذلك الحاضر المحال الذى ظل الخروج منه مجرد حنين إلى عصر ذهبي؟ كان الفارابى قد ارتأى أن الناس قد دعتهم الضرورة الطبيعية إلى الاجتماع على أن يخضعوا لارادة رئيس واحد تتمثل فيه المدينة بخيرها وشرها، ولكنها قد تصبح جاهلة إذا لم يكن حاكمها على وعى بقواعد الخير وكان فاسقا، أو تصبح فاضلة إذا رأسها فيلسوف فى ثوب النبى محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومن ثم تكون مهنته مقرونة بوحى من الله. والسؤال اذن: هل يقبل علاوى هذا الرأى وهو يشير إلى كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي؟ أظن أن شيئاً من هذا القبيل كان وارداً فى ذهنه فى السنوات الثلاث التى كان فيها وزيرا فى الحكومة العراقية قبل ثورة 14 يوليو. ولا أدل على ذلك من قوله بأنه فى حينها كان يبحث عن أسباب انهيار المعيار الروحى والأخلاقى للعالم الاسلامي. وعند هذه النقطة التف حوله الناشرون وطالبوه بتأليف كتاب عن الاسلام السياسي. تردد فى البداية وكانت حجته فى هذا التردد أن ثمة كتباً عديدة كانت قد صدرت تحت هذا العنوان. هذا بالاضافة إلى أن الاسلام السياسي، فى رأيه، هو جزء من أزمة الاسلام فى العالم الحديث، ومن ثم فهو عرض لمرض. والمطلوب بعد ذلك الحفر بحثا عن جذور الأزمة. وبداية الحفر أسئلة ثلاثة أثارها فى بداية كتابه وهى على النحو الآتي: السؤال الأول: هل ثمة حضارة اسلامية واحدة أم حضارات متعددة مكونة من وحدات عرقية وثقافية وقومية؟ السؤال الثاني: هل فى الامكان إعادة إحياء الحضارة الاسلامية أم أنها انتهت؟ السؤال الثالث: هل فى الامكان تأسيس مجتمع حديث برؤية الهية؟ من أجل معرفة أجوبة علاوى على هذه الأسئلة الثلاثة التى صاغها بنفسه ينبغى التنويه بأن الفكرة المحورية التى دارت عليها الأجوبة أن جوهر الحضارة الاسلامية هو المقدس. واللافت للانتباه هنا أن المقدس وارد فى كل الأديان. وقد تناوله بالنقد والتحليل إميل دوركايم مؤسس المدرسة الاجتماعية الفرنسية. يقول فى كتابه المعنون: علم الاجتماع والثقافة أن المقدس قائم بذاته، أى مستقل، وبالتالى لا يمكن المزج بينه وبين ما هو دنيوي، لأن أى مزج من شأنه إحالة المقدس إلى الدنيوي، وبالتالى القضاء عليه. ومعنى ذلك امتناع البحث عن المقارنة بين المقدس والدنيوي. وبهذا المعنى يقرر دوركايم بأنه علمانى وهو يبحث فى المقدس. والمغزى فى قرار دوركايم أنه يقبل البحث فى المقدس كظاهرة اجتماعية وليس كظاهرة دينية. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة