يقول إدوارد سعيد الفلسطينى المولد الأمريكى الجنسية إن كلمة المثقف بالإنجليزية إنما تعنى «المفكر»، وإنها قد ترتبط بعبارات مثل «البرج العاجى»، وهى تعنى هنا الانعزال عن المجتمع وقد تعنى «الاستهزاء» وإن الذى أكد هذا الاتجاه فى التفكير هو الناقد الأدبى الشهير والمفكر الكبير ريموند وليامز، وذلك فى كتابه «كلمات أساسية»، فهو يرى أن الكلمات الإنجليزية التى تعنى المفكرين والصبغة الفكرية وطبقة «المفكرين» بوجه عام كانت ذات دلالات تحط من قدرهم وقد ظلت هذه الدلالات منتشرة إلى منتصف القرن العشرين. ومن الواضح أن هذه الدلالات مازالت قائمة، وأن من المهام التى يجب أن يقوم بها المثقف محاولة تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التى تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنسانى وعلى التواصل البشرى.وهو يرى أن المفكر أو المثقف شخصية من الصعب التنبؤ بأفعاله فى الحياة عامة.إن المثقف الحقيقى هو الذى يتفاعل مع أوسع جمهور يؤمن بآرائه وإنه يتوجه إلى هذا الجمهور دون أن يتعالى عليه لأن هذا الجمهور هو السند الطبيعى الذى يعتمد عليه المثقف فى قوته. يقول أنطونيو جرامشى وهو مناضل إيطالى ماركسى وصحفى وفيلسوف سياسى سجنه موسولينى عام 1926 إلى عام 1937، ومن كتبه كتابه الشهير «مذكرات السجن»، حيث يرى فيه أن جميع الناس مفكرون إلا أن الوظيفة التى يقوم بها المثقف أو المفكر فى المجتمع لا يقوم بها كل الناس، وإن الحياة العملية التى عاشها جرامشى هى ما يجب أن يكونها المثقف أو المفكر. فهو بعد أن أصبح متخصصا فى فقه اللغة إذ به يصبح من الذين يعملون فى تنظيم حركة الطبقة العاملة فى إيطاليا وأصبح أيضا من كبار المحللين الاجتماعيين ذوى العمق الواعى فى تحليلاتهم. ولم تقتصر كتاباته على إنشاء حركة اجتماعية، بل إنه تعدى ذلك إلى خلق كيان ثقافى أو فكرى مرتبط بهذه الحركة. ويحاول جرامشى أن يوضح أن الذين يقومون بوظيفة المثقف أو المفكر فى المجتمع هم نوعان: يضم النوع الأول المثقفين التقليديين مثل المعلمين ورجال الدين والإداريين، وهذا النوع يستمر فى أداء ذلك العمل نفسه جيلا بعد جيل. أما النوع الثانى فإنه يضم من يطلق عليهم «المثقفون المنسقون»، ويراهم جرامشى أنهم يرتبطون مباشرة بالطبقات أو المشروعات التى تستخدم المثقفين فى تنظيم مصالحها واكتساب المزيد من السلطة والمزيد من الرقابة. ويقول جرامشى عن المثقف المنسق: «إن معظم العمل الرأسمالى يأتى إلى جانبه بالفنى الصناعى والمتخصص فى الاقتصاد السياسى وبمن يقومون بتنظيم ثقافة جديدة ووضع نظام قانونى جديد». وفى الطرف الآخر نجد التعريف الأكثر شهرة والمؤيد من الكثيرين الذى وضعه جوليان بندا للمثقفين على اعتبار أنهم عصبة قليلة من الملوك الفلاسفة الفائقى المواهب والأخلاق الرفيعة، وهم الذين يمثلون الضمير العالمى. ويرى البعض أن الدراسة التى كتبها تحت عنوان «خيانة المثقفين» قد اعتبرتها الأجيال بمنزلة هجوم لاذع على المثقفين الذين يتخلون عن رسالتهم ويتنازلون عن مبادئهم أكثر من كونها تحليلا عمليا للحياة الثقافية. وهو يرى أن المثقفين الحقيقيين فى نظره هم سقراط والمسيح وسنجذا وڤولتير وأرنست رينان. ويرى جوليان بندا أن المثقفين الحقيقيين هم الذين لا يقوم نشاطهم على محاولة إصابة أهداف عملية، وإنما هم الذين يبتغون المتعة فى ممارسة أحد الفنون أو العلوم أو التأملات الميتافيزيقية وتحقيق مزايا غير مادية. ولذلك فإن بإمكان كل منهم أن يقول: إن مملكتى لا تنتمى إلى هذه الدنيا. ويرفض بندا المفكرين غير الملتزمين أو الذين يعيشون فى أبراج عالية والذين يقتصرون على معالجة موضوعات عويصة وغامضة يصل بعضها إلى حد السحر والخرافة، فإن المفكرين الحقيقيين فى نظره هم الصادقون مع أنفسهم، حيث تدفعهم مشاعرهم الميتافيزيقية الجياشة والمبادئ السامية مثل مبدأى العدل والحق، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء، وتحدى السلطة الفاسدة أو الغاشمة. أما المثقف فى رأى إدوارد سعيد هو فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من أن يحمل رسالة أو تحقيق وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأى ما، وتجسيد ذلك وإعلانه فى مجتمع ما، وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع، وأهم من ذلك كله أن يكون فردا من الصعب تماما أن تستقطبه الحكومات، وأن يكون مبرر وجوده فى مجتمعه هو تمثيل الأشخاص والقضايا التى عادة ما يقضى عليها النسيان أو التجاهل والإخفاء. ويقوم المثقف بهذا العمل على أساس المبادئ العامة العالمية، وهى أن جميع أفراد البشر من حقهم أن يتوقعوا مستويات سلوك رفيعة ومناسبة فى تحقيق الحرية والعدل من السلطات الدنيوية أو الأمم، وأن أى انتهاك لهذه المستويات والمعايير السلوكية بشكل متعمد أو حتى دون قصد لا يمكن السكوت عليه، بل لابد من إشهاره والوقوف ضده بشجاعة. ذهب الناقد الأدبى والشاعر والمفكر الإنجليزى الكبير ماثيو أرنولد فى كتابه «الثقافة والفوضى Culture and Anarchy «1869» إلى حد القول بأن «الدولة» كشكل نظامى أفضل ذات للأمة وأن الثقافة القومية هى التعبير عن أفضل الأقوال وأفضل الأفكار. وليست هذه وتلك مجرد أمور بدهية، ويرى أنه من المفترض أن يتولى «أهل الثقافة» إعلان هذه الذات الفضلى وأفضل الأفكار أيضا، ويبدو أنه كان يقصد الذين يطلق عليهم «المثقفون أو المفكرون»، أى الأفراد الذين تؤهلهم قدراتهم للتفكير والحكم لتقديم أفضل الأفكار وهى الثقافة الحقيقية وتمكينها من السيادة والتفوق. وهو هنا يبدو أفلاطونى النزعة. ويعمد أرنولد إلى الصراحة الكاملة عندما يقول إنه من المفترض ألا تكون لهذه المصلحة طبقات معينة أو مجموعات صغيرة من الأشخاص، بل لنفع المجتمع كله. وهنا أيضا كما هو الحال فيما يتعلق بالصحافة الحديثة. فمن المفترض أن يكون دور المثقفين مساعدة مجتمع قوى على الإحساس برابطة الهوية المشتركة، وهى هوية بالغة السمو والارتقاء. ويكمن وراء حجة أرنولد تخوفه من أن يؤدى ازدياد الديمقراطية بزيادة أعداد الذين يطالبون بحق التصويت والحق فى أن يفعلوا ما يحلو لهم إلى زيادة المشاركة فى المجتمع، ومن ثم زيادة صعوبة حكمه. ومن هنا نجد ما لا يصرح به أرنولد من ضرورة قيام المثقفين بتهدئة الجماهير، وبإرشاده إلى أفضل الأفكار وأفضل الآثار الأدبية التى تمثل الانتماء إلى مجتمع قومى. لمزيد من مقالات مصطفى محرم