أعظم حلم تنشده الإنسانية أن يعيش العالم بلا حروب أو صراعات ويستيقظ الفرد يوميا على حالة استقرار أمنى دون إزعاج أو استنشاق لرائحة الموت. وفى كل مرة ينعقد مؤتمر ميونيخ للأمن خلال شهر فبراير من كل عام تتعلق الآمال بتحقيق هذا الحلم حتى لو من باب «الأمنية الغالية»، غير أن الدورة الحالية تنطلق اليوم وعلى الطاولة تقرير العام الماضى «شديد القتامة» حول تطورات الأمن العالمى وصورة الكرة الأرضية وسط ملفات متشابكة تتراوح ما بين الهجرة غير الشرعية والإرهاب ومستقبل الصراع بين الولاياتالمتحدةوروسيا تزامنا مع ما تعانيه قارة أوروبا من تصدع داخلى مترتب على اضطراب الأوضاع الأمنية فى بعض دولها من ناحية، وانقسام سياسى واقتصادى يرسم قرارات مصيرية مثلما هى الحال مع مشروع «البريكست» والخروج من الاتحاد الأوروبى من ناحية أخرى. ولايخلو أى مؤتمر دولى من مناقشة موقف الولاياتالمتحدة إزاء قضايا الأمن والنزاعات المسلحة فى العالم، علما بأن آخر تقرير لمؤتمر ميونيخ حذر من تصاعد فى وتيرة الصراعات، وربط تغير المناخ بهذه الصراعات، التى أسهمت بدورها فى الهجرة والمجاعة، وأكد رئيس المؤتمر فولفجانج إيشنجر أنه بات واضحاً بأن العالم قد أصبح خلال العام الماضى أكثر قرباً من حافة الصراعات المسلحة الثقيلة، مع ارتفاع حدة التوتر بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وكوريا الشمالية، والحرب المشتعلة بين امريكا وإيران، فضلاً عن لعبة الشد والجذب المستمرة بين حلف شمال الأطلنطى «الناتو» والدب الروسى فى أوروبا. ومؤخرا، قررت أمريكا اعتزال الساحة الدولية بدءا من الرحيل عن المجلس الدولى لحقوق الإنسان والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ والمحكمة الجنائية الدولية، وانتهاء بالتهديد بمقاطعة المعاهدة النووية مع روسيا للضغط على الأخيرة .. وبالتبعية تشكل مغامرات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بندا مهما على أجندة «ميونيخ للأمن» لاستشعارها تخلى واشنطن عن دورها فى ضمان الأمن الدولى والتزام سياسة أحادية الجانب تركز على الشئون الأمريكية فقط .. وبالتالى يسعى المشاركون فى المؤتمر المقبل إلى إعادة المارد الأمريكى إلى صوابه وتغليب التعاون المشترك على المصالح الشخصية، خصوصا مع انخفاض ميزانية وزارة الخارجية الأمريكية بشكل كبير، مقابل ارتفاع النفقات العسكرية، بما يعنى أن الأخ الأكبر صار يتصرف منفردا ولايعير اهتماما للاتفاقيات الدولية وقرر المواجهة دون تنسيق أو رؤية موحدة مع المجتمع الدولى. وأوروبياً، تتعرض القارة البيضاء للاختراق الأمنى من تنظيمات الإرهاب وخلاياه العنكبوتية، وأصبحت الحاجة ملحة وضرورية للاعتماد على ذاتها ومواردها دفاعيا فى إنقاذ الجميع من رصاص وانفجارات»الذئاب المنفردة»، وكانت تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فى صدارة المشهد عندما قالت» يجب الآن على الأوروبيين أخذ مصيرهم بأيديهم»، وفى حالة حافظ جميع دول الاتحاد الأوروبى على تخصيص 2 ٪ من ناتجها القومى للمهمات الدفاعية، فإن الإنفاق العسكرى سيزداد بحوالى 50 ٪ وسيبلغ نحو 386 مليار دولار بحلول عام 2024، ليصبح الجيش الأوروبى أكثر كفاءة وتأهبا لمواجهة أى تحديات أمنية، بل وقادرا على تحجيم خطورة الإرهاب العالمى دون المساعدة الأمريكية، ويبدو أن «ميونيخ 2019» فرصة أوروبا الأخيرة لحفظ ماء وجهها وحماية ما تبقى لها من كرامة وهيبة على المستوى الأمنى، وقد تكون برلين محطة مهمة لرعاية «بذرة» الجيش الأوروبى الموحد التى زرعتها فرنسا وألمانيا وتنتظر من يرويها ويعمل على نموها!. ويشغل أمن الخليج حيزا حيويا فى جدول أعمال المنتدى القادم من واقع اعتراف القائمين على المؤتمر بأن أمن هذه المنطقة مهم بالنسبة لأوروبا والعالم بأسره، وهو ما يدفع الاتحاد الأوروبى للمساهمة فى احتواء أزمات الشرق الأوسط. وإزاء تصاعد حرب العقوبات بين أمريكا وإيران على خلفية الاتفاق النووى الموقع عام 2015، يركز المؤتمر على آلية التوصل لحل جذرى وقاطع لهذا السيناريو الملتهب فى أحداثه وتفاصيله، لاسيما وأن أوروبا طرف أصيل ومؤثر فى هذه المعادلة ولايقبل التفريط فى مكتسبات الاتفاق وفوائد الصفقة تجاريا وسياسيا وأمنيا .. ويتوقع خبراء جهودا فى برلين لتمرير الاتفاق وتهدئة الملعب بين واشنطنوطهران، والخروج من الجلسات بتوصيات أو إجراءات تحسم هذا الملف .. وإن كانت المؤشرات تحمل «تشاؤما» بشأن نتائج مرضية فى ظل رفض ترامب للتفاوض من أصله، وإصرار طهران على»خيار» الاتفاق .. إلا أن المؤتمر لايملك سوى الرهان على الضغط الأوروبى وتلطيف الأجواء مع أمريكا على عدة مستويات أملا نحو«عالم آمن» .. وينام فى هدوء.