فى كل مرة يأتينى صوتها عبر الهاتف أشعر بالخجل، بسبب عدم تلبية دعوة وجهتها لى لزيارتها فى المنزل منذ ثلاثة أعوام، وأشعر أيضا بالاعتزاز، لأنها تبدو متسامحة ومهمومة بالشأن العام، وتطرح موضوعات سياسية وثقافية متنوعة، نتناقش حولها، ثم نتوقف إلى أن يأتينى صوتها مرة أخرى ونستأنف الحوار. السيدة ليليان زوجة المفكر الراحل لطفى الخولي، معروفة لدى الأصدقاء المقربين باسم ليليان الخولي، تكريما ووفاء وإخلاصا له، وصنعت من منزلها، بعد رحيل زوجها منذ عشرين عاما، ملتقى ضمنيا لمحبيه. وتحرص على دعوتهم من حين لآخر. تخص البعض بقصص ممتعة وجذابة، وتتناول جوانب خفية عن لقاءاته وصداقاته مع المسئولين والمفكرين والأدباء والفلاسفة، قد لا يعلمها كثيرون. لم تكن تعرف أننى ممن اقتربوا من المفكر الراحل فى بداية عملى الصحفي، إلى أن كتبت عنه مقالا فى الأهرام بعنوان لطفى الخولي.. كاتبا ومفكرا ومبدعا بتاريخ 30 يناير 2016، واتصلت لتشكرنى عليه، واعتبرته وثيقة منصفة لزوجها، أو على حد قولها من أفضل ما كتب بعد رحيله. وقتها كنت أسمع عن الدور المؤثر الذى لعبته فى حياة زوجها من كلام الأستاذ حسين شعلان، متعه الله بالصحة والعافية، وكان قريبا من الراحل، فكرا وعملا وتميزا وأخلاقا، ويعرف السيدة ليليان ويحمل لها كل الود والاحترام، واستفدت كثيرا من جديته ودقته ومهنيته. لا أنسى يوما، عندما حدثني، وكان مسئولا عن إدارة صفحة الحوار القومى فى الأهرام، ومدير تحرير مجلة أوراق الشرق الأوسط، الصادرة عن المركز القومى لدراسات الشرق الأوسط، وهو فرح بأن الأستاذ لطفى وافق على قيامى بكتابة دراسة عن الأكراد فى تركيا، وقتها لم تتوثق علاقتى به مباشرة، وسألت كيف عرف هذا العملاق أننى قادر على إنجاز هذه المهمة، ولماذا رشحني؟ القصة التى عرفتها خيالية لكل صحفى ومليئة بالعبر، وتؤكد عظمة هذا الجيل، فقد طلب شعلان من الدكتور جلال معوض الخبير فى الشئون التركية، كتابة الدراسة، لكنه اعتذر لضيق الوقت، ورشحنى بدلا منه، ولم أعرفه شخصيا، وعلم الخولى بالموقف، وطلب تنفيذ الاقتراح. السعادة التى رأيتها فى عينى الأستاذ حسين، عرفت بعدها أنها كانت جزءا من غبطة ظهرت على وجه الخولى لرغبته فى منح فرص للشباب. وهو موقف بسيط، غير أنه يبين لماذا أصبحت ليليان صنوا لزوجها فى المعرفة والأخلاق والوفاء. رافقته ومشت على دربه لبضعة عقود، شهدت فيها عذاباته السياسية وتغيراته الفكرية ومعاركه الثقافية، وتحرص على أن تكون معاملاتها مع الجميع رقيقة بلا كلفة، وقوية بلا خشونة. تشعر من يتحدث معها أنه يعرفها. هكذا كان انطباعى منذ المكالمة الأولي، واستمر التواصل مع كل مقال أكتبه يلقى هوى لديها، أو فكرة تجد صدى فى عقلها. الانشغالات الحياتية اليومية بدت حجة منطقية لتبرير عدم تلبية دعوتها على فنجان قهوة، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لها، لأنها تقيم فى سكن مجاور وعلى بعد خطوات من منزلي، وتضحك دائما من معاندة الظروف لعدم اللقاء مباشرة. قبل نهاية العام الماضى وعدتها بالاستجابة لدعوة قالت إنها ستضم عددا من الزملاء، جميعهم كتبوا وخبروا وعرفوا الأستاذ لطفي، لكن القدر عاندني، واضطررت للسفر قبل يوم من الموعد، وخجلت من الاعتذار لها، وانتظرت إلى أن حانت الفرصة للكتابة لسبب يتعلق بهموم مهنة الصحافة. اتصلت بى السيدة ليليان، صباح الاثنين الماضي، وهى حزينة على ما يجرى فى نقابة الصحفيين، المقبلة على انتخابات مصيرية، وبدت منزعجة أكثر لأن غالبية المرشحين يتصارعون حول أيهم يتفوق وينال عددا كبيرا من أصوات الجمعية العمومية من خلال جلب مكاسب مادية جديدة. قبل أن تشرح باستفاضة سبب الحزن والانزعاج، عاجلتها باعتذار مؤجل، وكعادتها كانت ودودة فى تقبله، ثم أشارت إلى أنها وقعت على برنامج انتخابى أعده الأستاذ لطفى فى مارس 1981، وقت أن كان مرشحا لعضوية مجلس النقابة، وأهم ما تتذكره فى المعركة الحادة، أنه فاز فى ظل معاندة السلطة السياسية له فى ذلك الوقت، ورفضه الشديد فكرة المساومة على حقوق الصحفيين، أو منحهم مزايا مادية مؤقتة يفهم منها أنها جاءت كرشوة مقننة. أعلم أن هذا ملف شائك ومليء بالغيوم ويتداخل فيه العام مع الشخصي، والمهنى مع الإنساني، والسياسى مع الأخلاقي، لذلك ليس هذا مجال الحديث عنه، فقد كانت السيدة ليليان حريصة على أن ترسل البرنامج لأطلع عليه، وبالفعل وصلنى ويتكون من 13 صفحة، تحت عنوان حتى لا نصبح قتلة أنفسنا ومهنتنا ونقابتنا. الورقات الصفراء حافلة بالمعانى البيضاء، ولخصت هموم مهنة الصحافة فى مصر منذ نحو أربعين عاما، وتكاد تكون مرت بالأمراض نفسها التى تعانيها اليوم، والتغير الظاهر يكمن فى الأشخاص وقيمة ومكانة ورؤية وتأثير كل منهم، لأن المشكلات تراكمت وتبحث عن حلول مضنية، والتطورات السلبية تسارعت بصورة يصعب ملاحقتها وإيجاد تسويات مناسبة. اللافت فى البرنامج أنه لم يأت على ذكر صرف ترضيات مادية تحت أى مسمي، وكان صاحبه حريصا على التعامل مع الترشيح للدفاع عن المهنة، وليس لجلب مكاسب مادية، وعلى الزملاء المرشحين لمنصب النقيب أو المجلس التيقن أن إعلاء المهنة أو انخفاضها يقع على عاتق العاملين فيها أولا. الخطاب المفتوح الذى وجهه الخولي، تعتبره زوجته وثيقة تكشف كيف كان يتم التعامل مع الأمور الجادة بإخلاص، وأنا اعتبره مازال برنامجا مهما للمستقبل، ويؤكد بعد نظر واضعيه وقدرتهم على الاستشراف، وهى من المزايا التى جعلت الخولى محل انتقاد من قبل قطاع كبير من السياسيين والمثقفين، لأن تقديراته وتحليلاته الفكرية فاقت من حاولوا اللحاق به، وهو ما أدخله معارك عدة وربحها، وأثبتت النتائج قوة حججه وبراهينه. لا أعلم من تأثر أكثر بالآخر، لكن الأحاديث المتقطعة مع السيدة ليليان أشعرتنى بأنها وجه ثرى ومشرف للأستاذ لطفى الذى تعرفت عليه شخصيا لفترة وجيزة قبل رحيله. وأراها دءوبة فى شغفها للمعرفة، ومخلصة فى إيمانها بفكره، وفخورة فى حرصها على الاعتزاز بمواقفه السياسية وكتاباته المتعددة. لمزيد من مقالات ◀ محمد أبوالفضل