عرف النظام الإقليمى العربى منذ نشأته ظاهرة الخلافات والصراعات العربية - العربية التى رغم احتدادها فى مراحل معينة كان نموذجها يشير إلى أنها تتراجع إلى الخلف فتُسوى أو تتم تهدئتها لاعتبارات الأمن القومى العربى عندما يظهر خطر خارجى داهم، والمثال الفذ فى هذا الصدد يتضح من مقارنة حال التفاعلات العربية قبل عدوان 1967 وبعده، فقبل العدوان كانت المواجهة المصرية-السعودية على أشدها بسبب الثورة اليمنية والتدخل العسكرى المصرى لمساندتها وبعد الهزيمة العربية تداعى العرب إلى قمة الخرطوم التى شهدت تفاهماً مصرياً - سعودياً حول اليمن وتضامناً عربياً غير مسبوق انطوى على دعم مالى من الكويت والسعودية وليبيا لدول المواجهة مكنها من الشروع الفورى فى إعادة بناء قواتها المسلحة لإزالة آثار العدوان، وظل هذا التضامن قائماً حتى حرب أكتوبر 1973 التى مثلت ذروة له، ولم تعد الخلافات العربية إلا بعد الانقسام العربى - المصرى حول سياسات التسوية السلمية مع إسرائيل، ومع ذلك نلاحظ استمرار نموذج الصراعات بحيث أخذ الانقسام فى الالتئام تدريجياً مع تطور الحرب العراقية-الإيرانية وبروز الخطر الإيرانى وإلحاح الحاجة إلى الثقل المصرى فى معادلة الأمن العربى بحيث عادت العلاقات المصرية - العربية إلى سابق عهدها مع نهاية عقد الثمانينيات، غير أن الغزو العراقى للكويت فى 1990 كان علامة فارقة فى تطور ظاهرة الصراعات العربية - العربية فقد كان نموذجها قبل هذا الغزو يكاد يكون نموذجاً للوحدة وليس للصراع بمعنى أن بنية الصراعات أشارت إلى أنها كانت صراع الكل ضد دولة واحدة خرجت على مألوف السلوك العربى كما حدث فى الوقفة العربية الجماعية ضد ضم الأردن الضفة الغربية 1950 والوقفة العربية الجماعية ضد انضمام العراق إلى حلف بغداد 1955 وكذلك ضد المطالبة العراقيةبالكويت 1961 وشبه الإجماع العربى على معارضة سياسة التسوية مع إسرائيل للرئيس السادات، أما فى الغزو العراقى للكويت فقد انقسم العرب إلى معسكرين شبه متكافئين، ولم يُحسم الصراع للأسف إلا بتدخل دولى قادته الولاياتالمتحدة بينما حُسِمَت أزمة 1961 بفعل عربى نجح حيث فشل مجلس الأمن. وعقب الغزو الأمريكى للعراق 2003 بدا وكأن هناك حالة سكون فى التفاعلات العربية نتيجة القبضة الأمريكية القوية على تفاعلات المنطقة غير أن ما سُمى الربيع العربى أحدث تغييراً فى نموذج الظاهرة الصراعية فى الوطن العربى، فقد أصبحت الغلبة فيه للصراعات داخل الدول على الصراعات بين الدول كما اتضح فى العراق وسوريا وليبيا واليمن، ولا يعنى هذا غياب الصراعات بين الدول، فأولئك الذين قدموا الدعم للثوار ضد نظام معين إنما فعلوا ذلك لأنهم كانوا فى خصومة مع هذا النظام، غير أنه فى الآونة الأخيرة حدث من التطورات ما يشير إلى تزايد الخلافات والصراعات البينية العربية كما فى أزمة الرباعى العربى مع النظام القطرى والأزمة اللبنانية-الليبية الأخيرة وأخيراً الأزمة المغربية-السعودية الراهنة، وإذا كان بعض هذه الخلافات يشير إلى أسباب حقيقية كالسلوك المتبع من النظام القطرى منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى فإن بعضها الآخر إما عبثيا أو يشير إلى حساسية شديدة، ففى الأزمة اللبنانية-الليبية نرى اللامعقول بحق، فأنصار الإمام الغائب موسى الصدر الذى اتُهم القذافى بإخفائه وربما قتله يعاقبون النظام الليبى الحالى الذى نجم عن ثورة على القذافى على تهمة منسوبة للأخير! ويختارون أن يكون عقابهم بإهانة العلم الليبى الذى عاد بعد انتهاء حكم القذافى، وترتبط الأزمة المغربية-السعودية الأخيرة بقضية الصحراء وهى من أعقد الخلافات العربية-العربية إن لم تكن أعقدها فعبر ما يقارب نصف القرن لم يتزحزح موقف أى طرف فى هذا الخلاف شعرة واحدة، وتبدو حساسية المغرب الشديدة من أى شىء يمس من وجهة نظره وحدته الترابية وهو فى حالتنا تقرير أُذيع على قناة العربية التابعة للسعودية، ولم يتسن لى للأسف أن أشاهد هذا التقرير غير أنه فى التحليل السياسى يكفى أن يدرك طرف فى علاقة ما أن وضعاً معيناً يهدده لكى يبدأ الخلاف حتى ولو كان التهديد غائباً من الناحية الموضوعية، ويرتبط هذا الأمر بتطور مقلق فى ظاهرة الخلافات العربية وهو أنها أصبحت تثور أحياناً لأتفه الأسباب كزلة لسان مذيع فى فضائية أو مقالة منشورة فى صحيفة حتى ولو كانت غير رسمية، وقد ثار خلاف مغربى-جزائرى حول النسب الأصيل لأكلة «الكسكس»!. ويرى البعض أن الإعلام يتحرك بوحى من الحكومات بحيث يكون أداة لتنفيذ سياسة رسمية وليس تعبيراً عن مواقف شخصية للإعلاميين وهذا صحيح جزئياً لأن بعض الإعلاميين يتصرف أحياناً بتلقائية فإذا أُضيف لهذا تردى المستوى يمكن أن تنشأ الخلافات بين الدول والمجتمعات لأسباب شديدة التفاهة، وقد نشأت أزمة شهيرة بين مصر والجزائر بسبب مباراة لكرة القدم فى تصفيات كأس العالم قبل الماضى بسبب تعليقات غير مسئولة من بعض المذيعين فى ظل أجواء احتقان سادت قبل المباراة، ويُلاحظ أنه فى حقبة التحرر الوطنى والتغيير الاجتماعى والسياسى كانت للصراعات تكلفتها العالية لكنها كانت تؤدى وظيفة تطويرية تعوض هذه التكلفة، ثم جاءت مرحلة تنشب الصراعات فيها ويطول أمدها ثم تعود بعد ذلك إلى نقطة الصفر دون أن يتحقق أى تغيير إلى الأفضل، فهل نحاول تخليص الخلافات العربية من العبثيات لأن لدينا من الأمور الجادة التى نختلف عليها الكثير؟ وهل نحاول أن نضبط أداءنا الدبلوماسى والإعلامى بحيث يمكننا إدارة خلافاتنا برشادة وكفاءة؟ ذلك لأن الأوضاع العربية الراهنة لم تعد تحتمل المزيد من التدهور ولأننا والأمر كذلك بحاجة ماسة إلى التركيز على مواجهة التحديات الراهنة التى تعصف بنا بل وتحديات أخرى قادمة قد يكون لها أوخم العواقب على المستقبل العربى إن بقيت أوضاعنا العربية على ما هى عليه. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد