بمشاركة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأمريكا والعالمين العربى والإسلامى، صدر كتاب: «نحن وأزمنة الاستعمار.. نقد المبانى المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية»، من أربعة أجزاء وحرّره وقدّمه د.محمود حيدر، وصدر عن المركز الإسلامى للدراسات الإستراتيجية فى بيروت.. وترجع أهمية هذا الكتاب لأهمية موضوعه؛ حيث يتناول الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية فى إطار نظرى معمّق من خلال معاينة تحليلية للتجارب التاريخية فى آسيا وإفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، وقد توزعت الأبحاث وفقاً للترتيب المنهجى على بابين رئيسيين: الأول: المفاهيم وتطرق فيه إلى مصطلح ما بعد الاستعمار وظروف ولادته والتيارات التى تبنَّته فى أوساط نخب ما سميت «مجتمعات العالم الثالث ودول الجنوب». الثانى: السيرة التاريخية، التى تناول التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها من جانب حركات التحرير الوطنى ثقافياً وكفاحياً. ولقد تمت مقاربة مفهوم ما بعد الاستعمار على منحَيَيْن متوازيين: منحى الجغرافيا الأوروبية، حيث مسقط رأس المفهوم وظروف ولادته. ومنحى الجغرافيات المستباحة، أى من الأرض التى نشأت فيها الفكرة ال «ما بعد استعمارية» كأطروحة مقاومةٍ فكريةٍ وكفاحيةٍ للهيمنة والتوسع. ووفقاً لذلك، تطرق الكتاب إلى ماهية ما بعد الاستعمار وهويته، ولأن ساحات الغرب لم تخل من نقدٍ جلى للسلطة الاستعمارية، تطرق أيضاً للنقد الغربى نفسه لما بعد الاستعمار، وأخيراً قدم الكتاب نقداً للعقلانية الاستعلائية الغربية. والواقع، أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» ليس جديداً فى مسيرة التاريخ الغربى الحديث حيث ظهر فى سياقٍ تنظيريٍّ بدأت مقدماته مع نقد مسالك الحداثة وعيوبها فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم تحول بعد ذلك إلى تيارٍ نقديٍّ عارمٍ بعد الحربين العالميتين فى مطلع ومنتصف القرن المنصرم. لذا جاز القول إن النظريات ما بعد الاستعمارية اتصلت اتصالاً نقديّاً بعصر التنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعمارى بلغت ذروتها مع ختام الألفية الميلادية الثانية. مع ذلك، لم يكن لهذه الموجة النقدية أن تتخذ بعداً انعطافيّاً فى الثقافة الأوروبية لولا أنها ذهبت إلى المسِّ بالعقل المؤسِّسِ لتاريخ الغرب وسلوكه. وللبيان، فإن أول ما أُخِذَ على هذا العقل فى السياق النقدى إضفاؤه على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقيّاً ومعنيً حضاريّاً يؤكد تفوق الغرب واستعلاءه على بقية العالم. فازدهار العلم كما بات معلوماً لم يكن فقط بسبب فضول العلماء والمفكرين وتوثُّيقهم لاستكشاف عالمه الغامض، وإنما أيضاً وأساساً بسبب التوسع الاستعمارى الذى أوجبه وأطلق مساره. وعلى ذلك يصبح من المهم فى عالمنا العربى والمشرقى والإسلامى الراهن أن يندرج هذا التفكير التحررى النقدى للاستعمار إلى منظومةٍ معرفيةٍ تؤسس للإحياء الحضارى فى مواجهة الإقصاء الاستعمارى المستأنف. فلكى يتخذ فكر ما بعد الاستعمار مكانته كواحدٍ من مفاتيح المعرفة فى العالم العربى والإسلامي، وَجَبَ أن تتوافر له بيئات راعية، ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق نهضوية، فى إطار مشروعٍ حضاريٍّ متكاملٍ.