تقترن الفجوة الكبيرة التى تفصل بين شمال العالم وجنوبه بأنماط مختلفة أشد الاختلاف للتغير الاجتماعي. وربما يكون هذا الاختلاف طبيعياً بسبب التباين الشديد فى الظروف على نحو يجعل الشمال والجنوب أقرب إلى عالمين، وأحياناً إلى عصرين، متباعدين مع استثناءات هنا وهناك. لكن ما لا يُعد طبيعياً أن نبقى عازفين عن معرفة طبيعة التغير الاجتماعى الذى يحدث فى شمال العالم، وبصفة خاصة فى الدول الغربية الأكثر تقدماً، وفهم ما يحمله من تحولات نوعية فى تركيب الفئات المجتمعية، وأنماط التفاعلات بينها. مازال العلم الاجتماعى فى العالم العربى بوجه عام بعيداً عن هذه التحولات، وأبعادها ودلالتها. ويظهر هذا القصور فى المعالجات الشائعة لظواهر اجتماعية- سياسية تفاجئنا من وقت إلى آخر، مثل ظاهرة «السُترات الصُفر» التى نستسهل إدراجها فى سياقات تجاوزها التطور الاجتماعى فى الغرب. ويرتبط التغير الاجتماعى الذى يحدث فى الغرب بعوامل عدة من أهمها التحولات فى سوق العمل نتيجة ازدياد الأنشطة الاقتصادية الجديدة المرتبطة بثورة الاتصالات والمعلومات على حساب كل من الصناعات الثقيلة، التى انتقل قسم يُعتد به منها إلى دول العمالة الرخيصة والضرائب الأقل، والزراعة التى أدى توسع التكنولوجيا الحديثة فيها إلى تراجع الطلب على العمالة. وحين نتأمل هذه التحولات فى سوق العمل، نجد أنها أدت إلى انحسار طبقتين كانتا المصدر الأساسى للاحتجاجات الاجتماعية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهما العمال والفلاحون. وازداد فى المقابل من يعملون فى قطاعات الخدمات التى توسعت، ولاتزال، فى ظل انتشار سلاسل المقاهي، ومطاعم الوجبات السريعة، والبطيئة أيضاً، ومراكز خدمة العملاء فى فروع شركات التكنولوجيا الأحدث، وأنواع أخرى من الأعمال التى تحكمها عقود قصيرة الأجل، أو عقود موسمية وفقاً للطلب عند توافر العمل، أو عقود عمل بالساعة لفترة قصيرة فى اليوم، فضلاً عن ازدياد معدلات التهميش الاجتماعي، وتنامى الشعور بالافتقار إلى الكرامة فى أوساط المهمشين. وليس هذا إلا جزءاً صغيراً من التحولات الاجتماعية التى تؤدى إلى ظواهر جديدة لن تكون «السُترات الصُفر» آخرها، ولن يتيسر لنا الإلمام بها دون تطوير العلم الاجتماعى فى بلادنا. لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد