لا أدرى كيف أكتب عن إحسان عبد القدوس فى عيد ميلاده المائة. لا أدعى عدم الدراية لأبالغ فى تقدير الجهد الذى أبذله أو لأثير فضول القارئ ليبحث معى عن طريقة أو كيفية يمكن أن أكتب بها عن إحسان ثم أفاجئه فى النهاية بالمقالة، وإنما أعبر عن حيرة حقيقية. لأن إحسان عبد القدوس ليس واحدا فردا، وإنما هو كثير متعدد بذاته وبما عرفه واتصل به وتفاعل معه فى حياته، فلابد أن يكون، ربما دون أن يدرى أو يريد، غامضا محيرا. والغريب أنه رغم تعدده وغموضه كان يستطيع دائما أن يصل إلى الجمهور الواسع. ولأنه كان صحفيا بقدر ما كان روائيا فنحن نجد فى لغته ما يرتفع بها بعض الشيء عن لغة الصحافة وما ينزل بها بعض الشيء عن لغة الرواية. لكنه استطاع مع ذلك أن ينفرد بهذه اللغة وأن يطبعها بطابعه بحيث نستطيع أن نتعرف عليها وأن نميزها عن لغة سواه، سواء فى رواياته أو فى مقالاته. كان فى كل ما كتب قادرا على أن ينجح لأنه كان قادرا دائما على أن يكون حرا، وأن يكون صادقا مع نفسه، وأن يكون وفيا لأمه وأبيه. أمه السيدة روزاليوسف التى أصبحت فاطمة اليوسف. وهى وحدها تاريخ حافل بالمغامرات والصراعات والانتصارات والانكسارات منذ كانت طفلة لبنانية يتيمة هاجرت فى صباها الباكر إلى مصر لتجد من ساعدها على أن تتبوأ مكانا فى المسرح استحقت به أن تسمى سارة برنار الشرق، ثم تنتقل من التمثيل المسرحى إلى الصحافة الفنية فى مجلة تحمل اسمها، ثم تنتقل فى مغامرة جديدة من الفن إلى السياسة لتشتبك مع السلطة ومع أنصار السلطة وخصومها. إسماعيل صدقي، ومكرم عبيد، ومحمود عزمي، وعباس محمود العقاد، فضلا عن رجال المسرح اسكندر فرح، وعزيز عيد، وزكى طليمات. وإلى هذا المعترك تفسح لابنها الطريق ليكتب وهو فى الخامسة والعشرين من عمره مقالة ضد المندوب السامى البريطانى مطالبا بطرده من مصر فيقبض عليه ويسجن عدة شهور يخرج بعدها لتكافئه أمه بتعيينه رئيسا لتحرير المجلة. وكما تربى إحسان على يدى هذه الطفلة اليتيمة المغامرة تربى على يدى والده المهندس الممثل المغنى الشاعر محمد عبد القدوس، وتربى قبل هؤلاء وبعدهم فى الأحداث الكبرى التى يبدو وكأنها وقعت لتحتضنه هو وجيله. --- فى اليوم الذى ولد فيه إحسان وهو اليوم الأول من الشهر الأول فى عام 1919 كانت الثورة المصرية الكبرى تخطو خطواتها الأولي. ففى اليوم الثالث عشر من شهر نوفمبر عام 1918 توجه سعد زغلول إلى المعتمد البريطانى فى مصر سير ريجنالد وينجت يطالبه بالإفصاح عما يضمره البريطانيون لمصر بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولي. ولم يكن سعد وحده، وإنما كان معه رفيقاه عبد العزيز فهمى وعلى شعراوي، وكان معه كل المصريين بكل تاريخهم وبكل فئاتهم وطبقاتهم. فسعد زغلول هو تلميذ الإمام محمد عبده ونصير أحمد عرابي. وسعد ينتمى للفلاحين، والأزهريين، والأفندية، والمحامين، والقضاة، والكتاب، والخطباء، والفقهاء، والوزراء، ونواب الأمة. بعد ذلك بشهرين، وكان إحسان فى اليوم الثالث عشر من عمره، وقف سعد فى اجتماع دعاه إليه حمد الباسل ليلقى خطابه الذى انتقل فيه من مطالبة بريطانيا بالتحدث عن مستقبل مصر كما تراه إلى مطالبتها بالاستقلال التام ورفض الاحتلال والحماية واعتبرهما أمرين باطلين. وأن المصريين مستعدون للتضحية بما يجب أن يضحوا به فى سبيل الحرية والاستقلال. --- كأن إحسان وثورة 1919 توأمان. فقد ولد إحسان فى الأيام التى ولدت فيها الثورة، وعاش فيها، واستلهمها، وظل وفيا لها ولمبادئها طول حياته التى عاشها صحفيا، وروائيا، وسياسيا. فى كل عمل قام به كانت الحرية ترفرف بجناحيها فوق رأسه، وكانت توجهه وتلهمه ما يقول وما يفعل. الحرية هى موضوعه الحميم. وأنت تقرأ رواياته: فى بيتنا رجل، وأنا حرة، والله محبة فتجد الحرية ومعها الحب، وتجدها ومعها السياسة، وتجدها ومعها الدين. وأنت تقرأ مقالاته السياسية فتجد فيها الشجاعة التى تجدها فى رواياته التى يتحدث فيها عن الحب والجنس. والأمثلة كثيرة. يكفى أن نذكر منها مقالاته عن الأسلحة الفاسدة وحملته على من تاجروا بها من رجال القصر ورجال السلطة، وأن نذكر بعد هذه حملته على «الجمعية السرية التى تحكم مصر» ويقصد بها ضباط يوليو الذين استغلوا مقالات إحسان عن الأسلحة الفاسدة ليهدموا النظام الملكى ويستولوا على السلطة، ثم لم يغفروا له بهذه المقالات حملته على الاستبداد ودفاعه عن الديمقراطية. --- ولقد يبدو للقارئ أنى بما قلته عن إحسان عبد القدوس أعرفه. ولاشك أنى أعرف عن إحسان ما قلته عنه. لكنى مع هذا لا أعرفه كما يجب أن تكون معرفتنا لهذه الشخصية الرحبة الغنية. فى أواسط عام 1956 عندما التحقت بالعمل فى روزاليوسف لم تكن لى صلة مباشرة بإحسان لأن عملى فى تلك المرحلة الأولى كان مراجعة المواد التى يكتبها بعض المحررين لمجلة «صباح الخير» التى صدرت فى ذلك العام. من هنا كانت علاقتى العملية بالمسئولين فى تلك المجلة. ثم إن إحسان كان منهمكا دائما فى عمله لا يكف عن الكتابة لحظة. لم يكن فى العصر من يماثله. لأننا كنا نذهب إلى روزاليوسف لنلتقى أكثر مما كنا نذهب لنعمل. كنا نذهب إلى روزاليوسف لنلتقي، وكنا نخرج من روزاليوسف لنواصل اللقاء فى مطعم أو مقهي. لكن إحسان كان يغادر مكتبه أحيانا ليقطع الصالة التى تحتلها مكاتب المحررين، وقد يتوقف ليحاور بعضهم أو يجالسه كما فعل مرة أو مرتين. روزاليوسف كانت مشغل فن وخلية إبداع وحياة. كلنا كنا نكتب ونرسم وننظم الشعر، وربما غنينا ورقصنا. لهذا لم يكن فينا رئيس ومرؤوس. حدث مرة أن غبت عدة شهور كنت خلالها فى دمشق أشارك فى إحياء ذكرى عدنان المالكي. هناك عرض على الدكتور جمال أتاسى رئيس تحرير صحيفة «الجماهير» أن أبقى لأكتب لصحيفته فبقيت نحو ثلاثة أشهر عدت بعدها إلى القاهرة لأستأنف عملى فى روزاليوسف كأنى لم أغب يوما واحدا، وعندما عدت من فرنسا والتحقت بالأهرام كان مكتب إحسان فى الطابق السادس هو مكتبي.. مع هذا لا أدعى أنى عرفت إحسان! لمزيد من مقالات ◀ بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى