من أكثر حكايات الألم والشقاء التى يعيشها ملايين العاملين والمكافحين يوميا هزتنى بشدة حادثة ما أطلق عليه طفل البلكونة ونخطئ إذا اعتقدنا أنها مأساة استثنائية، فهذا الوهم يعنى عدم وجود قراءة أمينة لواقع الأمومة والطفولة وما تنسجه تحت طبقاته من معاناة تفقد العقل والاتزان والقدرة على اتخاذ قرارات صحيحة فبعد واقعة طفل البلكونة بيوم واحد سقط تلميذ بالإعدادية بين يدى أمه قتيلا أثناء محاولتها منعه من التسرب من البيت ليلا ليلحق بأصدقاء سوء علموه تناول المخدرات وعدم الذهاب للمدرسة.. الأم عاملة ومطلقة منذ سبع سنوات وتتحمل وحدها مسئولية تربية الولد والإنفاق عليه! فى الحادثتين لم تكن نية أى أم قتل ابنها فالاثنتان وكل الأمهات من أمثالهما قتيلات وضحايا ما تسببه الحياة تحت أقسى وأقصى خطوط افتقار العدالة الاجتماعية والرحمة الإنسانية من اضطرابات وخلل عقلى وروحى ونفسي، وأتمنى من كل من سارع إلى اصدار أحكام على الأم فى حادثة طفل البلكونة أن يضع نفسه مكانها وهى تعمل كعاملة نظافة فى مدرسة مقابل 300 جنيه شهريا أى أن مقابل الشقاء اليومى عشرة جنيهات؟!! أين الرقابة على حقوق العمالة الخاصة؟! ولتكمل الأم نفقات يحتاجها علاج زوج مريض أعجزه المرض عن العمل وتربية أبنائهما الأربعة تكمل احتياجاتهم بالعمل فى البيوت! وفى التحقيقات قالت شقيقة الزوج إن أخاها وزوجته تقدما لمشروعى تكافل وكرامة وحياة كريمة وفشلا فى الحصول على معونة منهما!! ملاحظة مهمة ومتكررة لنماذج مماثلة رغم ظروفها المعيشية تعجز عن الاستفادة من المشروعين ربما يجب أن يلفت نظر وزارة التضامن مع التقدير للجهد الكبير المبذول فى المشروعين. سعدت بإعلان نيابة أكتوبر فروض العدالة الاجتماعية والإنسانية والمسارعة بالإفراج عن الأم وخروج طفلها أسامة فى حضنها كما طلب وعدم الاستجابة لدعوات بعقاب وحبس الأم وايداع الطفل فى مركز رعاية للأحداث بعيدا عن أسرته باسم الحفاظ عليه وعلى مستقبله!!! وهل حياة أغلب أطفالنا الذين تؤويهم هذه المراكز تحقق هذه الرعاية بالفعل؟! أتمنى أن توفر الوزارة بمشاركة مؤسسات المجتمع المدنى العاملة فى مجال الأمومة والطفولة الرقابة والرعاية والمتابعة للأطفال فى هذه الدور. حادثة طفل البلكونة الكاشفة لوقائع حياة الملايين من النساء والرجال والأطفال تحتاج إلى خطط مؤسسية متكاملة للرعاية والإنقاذ الاقتصادى والاجتماعى والإنسانى والثقافى ورفع الوعي. فالغرق فى الآبار الآمنة للألم والعوز والأمية وكثير من الظلم واللامبالاة والتجاهل الذين أتيح لهم الاستيلاء ونهب كل ما يستطيعون من خيرات وثروات على من لا يملكون أبسط ضرورات الحياة وردم الشقوق والفوالق بكل ما يمكن أن يترتب عليها من زلازل بين مجتمعات الرخاء والثروات والغنى الفاحش ومجتمعات الوجع والحرمان الأفدح والأقسى ودعم وتمكين جميع المحاولات الجادة من الدولة لتصل الحقوق إلى الأكثر احتياجا لها. فى قرارها العادل والحكيم والإنسانى طلبت النيابة من وزارة التضامن تشكيل لجنة لمتابعة طفل حادث البلكونة وأسرته وتقديم الدعم النفسى لهم وهو ما أرجو أن يسارع للقيام به المجلس القومى للأمومة والطفولة بالتكامل مع الوزارات والمؤسسات المسئولة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا المسئولة عن الأمومة والطفولة فى جميع المحافظات ودون انتظار لانفجار حوادث وجرائم مؤلمة وموجعة كاشفة عما يعانيه واقع الآباء والأمهات والأطفال من اضطرابات. لا أعرف لماذا استدعت حادثة طفل البلكونة واحدة من القصص القصيرة فى إحدى مجموعات القصص بعنوان حادث اهمال عن أم شابة وعاملة أمام ماكينة نسيج وتضطر لترك طفلتها التى لم تتجاوز أعوامها الأولى بين أطفال البناية الشعبية التى تسكنها.. نادوا عليها.. لم توقف الماكينة حتى لا يضيع عليها أجر اليومية.. واصلت أسرع وأسرع.. تكرر النداء أعلى وبإلحاح.. اخترق قلبها وعقلها سؤال هل أنت أم لطفلة صغيرة.. انهدم قلبها فى صدرها لماذا يريدونها أن تذهب بسرعة إلى مسكنها.. هرولت تسابقها خواطرها السوداء.. اعتادت التشاؤم وقتلت به أفراحها اليتيمة.. كم مرة كادت الماكينة تأكل أصابعها بسبب سرحانها وسرعتها انتقلت الإيقاعات إلى جسدها واهتزازات نفسها انتقلت إلى الماكينة أصبحتا آلة واحدة من الحديد واللحم والدم.. كم تعذبت وهى تخطف صدرها من فم وليدتها لتؤدى الكثير الذى ينتظرها.. كم تعذبت وهى تضطر أن ترضع بالوعة حمام المصنع لبنها عندما يحن صدرها لإرضاع ابنتها ويكاد ينفجر من امتلائه باللبن.. سمنت البالوعة وابيض لونها وأحمر خداها والبنت تزداد هزالا.. مستعمرة المساكن الشعبية وصلتها أخيرا.. وصل معها الغروب حزينا يقطر مرارة أصحاب وجوه لم ترها من قبل حول المساكن ومجموعة من السكان.. سلموها الماشاء الله الزرقاء.. كانت تخاف عليها من الحسد سلموها الحذاء جديدا كما اشترته لابنتها بالأمس ونامت به الطفلة فرحة طوال الليل.. فُتح التحقيق.. سميرة السيد صبرى أنت؟.. أنا.. تسبب إهمالك فى قتل الطفلة منى قاسم متأثرة بكسور ونزيف داخلي! سجلوا كل أقوالكم.. سأوقع لكم تحتها.. أعطونى الآن بالوعة أرضعها صدري..! لمزيد من مقالات سكينة فؤاد