ليس ممكناً أن نطالب بالديمقراطية، ونرفض فى الوقت نفسه الحوار. الموقفان متعارضان موضوعياً، ومنطقياً. الحوار ليس مجرد آلية ديمقراطية، بل الآلية الأساسية أو المحورية. الآليات الديمقراطية كلها ترتبط بالحوار، وتدور معه وجوداً وغياباً. خذ مثلاً الانتخابات التى يستحيل وجود الديمقراطية، حتى الآن على الأقل، بدونها. فإذا تأملنا ما يحدث فى العملية الانتخابية، نجد أن الحوار هو جوهرها. الحوار بين المرشحين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. والحوار بين المرشحين والناخبين. وكذلك الحوار فى أوساط الناخبين. وهى رسالة سلبية هذه التى يوجهها رافضو الحوار الوطنى الموسع، الذى دعا إليه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وبدأ بالفعل فى 15 يناير الحالى وسيستمر لعدة أسابيع قادمة0 رسالة تناقض موقفهم المعلن فى احتجاجاتهم المتواصلة منذ نحو ثلاثة أشهر, لأن جدول اعمال الحوار يغطى أكثر من 90% من القضايا التى تعنيهم، مثل الضرائب، والقدرة الشرائية, والإنفاق الحكومى، وتنظيم العمل، والديمقراطية، والمواطنة. لا يكفى إعلان ماكرون، بالتزامن مع دعوته للحوار، أن حكومته لن تتراجع فى الإجراءات التى اتُخذت لخفض الضرائب وتشجيع الاستثمار، لتبرير رفض هذه الدعوة. وهو يقصد الضريبة العامة على الثروة، التى أُلغيت، وضريبة التركات، التى خُفضت. لم يكن إعلانه هذا موفقا مادام يدعو إلى حوار. لكن موضوع الضرائب بوجه عام مُدرج ضمن جدول الأعمال الذى قدمه. ومناقشة الضرائب لا تتجزأ، لأن الوصول إلى اتفاق بشأنها يتطلب معالجة شاملة لمختلف جوانبها. ولذلك يستطيع المطالبون بإعادة فرض الضريبة العامة على الثروة، وإلغاء الخفض الذى حدث فى ضريبة التركات، التعبير عن موقفهم، وتقديم تصور متكامل لتحقيق الهدف الاجتماعى المبتغى من زيادة الضرائب على الأثرياء، دون تأثير سلبى على الاستثمار. والحال أن رفض الحوار لا يعنى إلا أن المطالبين بمزيد من الديمقراطية لا يعرفون كيف يمارسونها. وهذه مفارقة لا تقتصر على الحالة الفرنسية الراهنة. لكن المفارقة تبدو أكثر وضوحاً فيها لأن رافضى الحوار يُفترض أن يكونوا بين الأكثر إيماناً بالديمقراطية لأنهم يريدون توسيع نطاق ممارستها فى نظام سياسى يعد أحد النظم الأكثر انفتاحاً فى عالمنا الراهن. لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد