فى ليلة شتوية مطرية صعبة من ليالى يناير، سافرت إلى مدينتى المنصورة، تلبية لدعوة محافظها العالِم الدكتور كمال شاروبيم، متحدثا إلى أهلى حول أحداث عام جديد، نتطلع إلى الخير فيه بإذن الله، وقطعا كان سؤالهم الأول عن يناير 2011؟ كيف كان؟ وما توصيفه لديّ؟ بصفتى كنت جزءا من الأحداث، مشاركا بحكم موقفى، وعملى فى الوقت نفسه. وجب عليّ القول أولا، إن المنصورة، بالنسبة لى، هى المكان الأول الذى شكل الوعى الإنسانى لديّ، وكل أحيائها وقراها ومراكزها محفورة فى وجدانى، ومكانتها لديّ لا تتزحزح، ففيها عشت، وتعلمت، ورأيت، وزرت، وهى بالنسبة لى أيضا مواطن الجمال، وأصل الحضارة. ونحن أبناء الدقهلية، بوجه عام، من المنزلة شمالا إلى ميت غمر جنوبا، نختزل قرانا الأصلية، ونقول نحن من المنصورة، وننسى الموطن الأصلى، سواء كنا من قرية أو مدينة، حتى نكون جزءا من هذا الجمال الذى ولد منذ نحو 800 عام على ضفاف النيل، مشكلا مزيجا يحكى عن قدرة الفلاح المصرى البسيط على نسج الخيال، وصنع الجمال، وصناعة المدن، بكل مواصفاتها الحديثة والجمالية، وخطوطها الرائعة، لتتحول هذه المدينة مع مرور السنين، فتصبح متحفا للتاريخ والجغرافيا معا، فقد كانت ولا تزال مستودعا للإنسان المبدع الذى انطلق منها ليصل إبداعه وجماله الإنسانى إلى كل أنحاء مصر، فى الثقافة والفنون والآداب، والقائمة تطول عبر الأجيال. يكفى أن نقول إنها بلد أم كلثوم وفاتن حمامة، وهى لا تقدم الثقافة والفنون فحسب، إنها بلد العلماء أيضا، ورجال الدين (الأفذاذ)، فالشعراوى لا تخطئه العين، وهى مستودع قوة مصر الناعمة، ومازال كثير من الناس يتساءلون عن سر قوة وجمال المنصورة، ويحيلون ذلك لسحر الجغرافيا أو التاريخ أو الإلهام، قد يكون هذا صحيحا، ولكن قطعا يقف الإنسان المنصورى وراء كل ذلك الإبداع، بثقافته وروحه ونضارته واستقباله للناس والحياة برحابة صدر. قدمت شكرى لصاحب الصالون الصحفى حازم نصر، زميلى فى جريدة الأخبار، وقد أصبح بشخصيته من أبرز الصحفيين المصريين الذين ترجموا فى أعمالهم، كيف تكون متخصصا، وكيف تصل بأخبارك، وتحقيقاتك المحلية عن بلدك، وبصياغة وإجادة، فتجعل كل مصرى ومصرية مهتما بها، جاعلا من عمله نموذجا لزملائه فى كل المحافظات، وكيف يبنون شهرة لبلدهم، وأنفسهم فى كل المدن والربوع الأخرى. احتشد فى ذهنى ما أردت أن أقوله، وأكتبه فى هذا المقال صغير المساحة، ونسيت أننى محكوم بها، وفيها، كنت أريد أن أتحدث عن كل المدن فى بر مصر، وقد وصل عددها إلى 248 مدينة عامرة بأهلها، ضمن 27 محافظة ..كنت أريد أن أتحدث عن المدن الجديدة، وقد بدأت مصر فى تشييدها مع العاصمة الإدارية، 14 مدينة تغير وجه مصر، وتنتقل بنا إلى عصر جديد.. كنت أريد أن أتحدث عن الإدارة المحلية، وضرورة انتقالها إلى الحكم المحلى، حتى يديرها أبناء المدن والقرى بكفاءة، وبأسلوب أسرع وأفضل. لكن جمال المشهد المنصورى، وروح محافظها الذى أردت الترحيب به، جعلانى أكتب عن المنصورة وحدها، فقلت للمحافظ إننى سعيد به فى بلده المنصورة، وأن أسلوب إدارته كان آسرا لنا جميعا، عندما دخل إلى المسجد ليستمع إلى خطبة الجمعة، فى إشارة إلى روح المحبة والتسامح بين المصريين. إنه يتكلم ويعمل بروح العلماء، يشخص المشكلات، ويعمل على تقديم حلول لها، صاحب مفاهيم جديدة، لا ينتظر الناس لقاءه ليحل المشكلات، بل يفعل ذلك بحس المسئول الوطنى. قلت للحاضرين إن المحافظ كمال شاروبيم يحكى لكم أن مصر بعد يناير هى نفسها قبل يناير 2011، لقد حدث التغيير، لكننا حافظنا على الوطن، وعلى نسيج المصريين، وكان الوقت صعبا ودقيقا، و قدرة الأمم تقاس بالأيام الصعبة والدقيقة والقاسية، وليس بالأحداث العادية، فمعادن الأوطان تُعرف عند الملمات، أو الهزائم القاسية. وقلت إذا أردنا القياس فسنقيس على ما حدث بعد يونيو 1967، فماذا حدث؟ انطلقت حرب الاستنزاف، ثم عبرنا بعد 6 سنوات بجيش حديث، ومؤسسات عسكرية وأمنية متطورة، يحسدنا عليها العالم المتقدم ، وبعد 2011 حاولوا أن يعبثوا بمصر..ماذا وجدوا؟ وجدوا وطنا قويا وجيشا حديثا، وكان الدرس الأوعى والأكبر للمصريين هو إعادة بناء الدولة الحديثة أو الدولة الذكية، بمؤسسات، ومدن، وقرى بلا عشوائيات، وبحلول ناجعة من الجذور لكل المشكلات. هذه هى قصة مصر التى يحب أن نحكيها لأبنائنا. مصر لن تكون مثل البلاد التى تسقط، أو تشتعل فيها حروب أهلية لسنوات، ومصر لن تغرق فى الفشل أو الدماء مثل غيرها فى المنطقة والعالم، فمصر دائما تجد الوسيلة للانطلاق والبناء والاجتماع على حب الوطن، ودائما ما تكون الأحداث الصعبة فى حياة أمتنا عابرة.. انظروا فى أنفسكم، لتجدوا حقيقة الوطن. ذهبت إلى المنصورة حتى أشرح ما جرى، فوجدت أن كل من يقابلنى يشرح أفضل مما أقول، فخرجت من اللقاء، وأنا مستعد لتحدى كل من يقول إن مصر تمر بمخاطر، فعندما يكون المصرى بهذا الوعى، وبهذه الروح، فهو قادر على اجتياز أى أزمة. كانت لحظات سعيدة، لم يستطع الجو الشتوى والأمطار والبرودة أن تفسد لقائى مع أهلى بالمنصورة فى صالونها، وأتمنى أن تشع منه روح المنصورة، عاصمة الثقافة والفنون والآداب، إلى كل بر مصر. كل يناير.. وأنتم بخير. لمزيد من مقالات أسامة سرايا