أما المشكلة الثانية التى يطرحها طه حسين فى علاقة الثقافة المصرية بالهوية المدنية للدولة المصرية فى عهدها الجديد، خصوصًا بعد صدور دستور 1923 وتوقيع معاهدة 1936 ومعاهدة مونترو على السواء، فكانت هى «مدنية الدولة» التى أقرَّتها نصوص دستور 1923 فى بنوده التى تعتمد على المواطنة ولا تمايز بأى حال من الأحوال بين مواطن مسلم أو مواطن مسيحى أو مواطن يهودى. وكلنا يعرف أن مصر قبل دستور1923 كانت تتمثل فيها الأديان الثلاثة التى كان لها ممثلوها فى اللجنة التى وضعت دستور1923، وهى اللجنة التى جمعت ما بين المسلمين بوصفهم ممثلى أغلبية المواطنين، والمسيحيين واليهود بوصفهم ممثلين للأقليات الشعبية، ولذلك كانت الروح المدنية هى السائدة على دستور تنتجه صفوة مجتمع متعدد الديانات. وكان من الطبيعى أن يكون الغالب على الدستور الروح المدنية التى تمنع احتمال وجود أى تمييز بين المواطنين على أساس دينى بل يعطى الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية بالقدر نفسه لكل مواطنيه بلا تمييز بينهم، على أى أساس يمكن أن يخل بمبدأ المواطنة الذى هو مبدأ مدنى لا دينى بأى حال من الأحوال. ولذلك كان دستور 1923 دستورًا مدنيًّا يستلهم شعار ثورة 1919 الذى يقول: «الدين لله والوطن للجميع»، وهو شعار يُعلى من مبدأ المواطنة المدنية على أى تمييز دينى حتى لو كان دين الأغلبية المسلمة. وهكذا يظل دستور 1923 أكثر مدنية من أى دستور جاء بعده فى مصر؛ لأنه ظل - فى روحه- هو الدستور الأقرب لروح ثورة 1919 التى كانت ثورة كل طوائف وفئات الشعب المصرى على اختلاف طبقاته وأديانه وطوائفه الاجتماعية فى آن. ولم يكن من الغريب أن يرفع شعار «وحدة الهلال مع الصليب» إلى جانب بقية الشعارات التى تؤكد المساواة فى مبدأ المواطنة، وليس بدعة التمييز بين المواطنين كما حدث ابتداء من دستور 1971 الساداتى الذى كان ينبئ عن توجه جديد لدولة تنطوى على نوع من التمييز المُضمر بين المواطنين، وهو تمييز هدد بالفعل، وفى الواقع، الوحدة الوطنية لوطن ظل يقوم على مبدأ المواطنة التى تنفى أى تمييز دينى أو عرقى أو جنسى أو اجتماعى أو ثقافى أو تعليمى، فكما كان التعليم حقًّا لكل مواطن ومواطنة، كانت حرية الاعتقاد الدينى حقًّا مقدسًا لكل مواطن ومواطنة بالقدر نفسه، فى الدولة الوطنية المدنية الديموقراطية الصاعدة. ولذلك كان من الطبيعى أن يتحدث كتاب طه حسين - وقد كان قريب العهد بمبادئ دستور 1923 الذى أُعيد إليه الاعتبار، وأُعيد تفعيله سنة 1930 ضد إرادة إسماعيل صدقى باشا ودستوره غير الشرعى - عن قضية من أخطر القضايا فى الوطن المصرى الناهض، وهى قضية هوية «التعليم» التى كان لا بد أن تُحسم من منظور الدولة المدنية. ولذلك يتحدث طه حسين عن أزمة الأزهر الشريف المتصلة منذ عهد إسماعيل أو قبله ولم تنتهِ إلى سنة 1938، وهى سنة صدور الكتاب. ويرى طه حسين أنها قضية سوف تستمر فى مدى المستقبل صراعًا بين القديم والجديد حتى تنتهى إلى مستقر لها فى يوم من الأيام، لكنها لا بد أن تُطرح - فى رأيه وفى كتابه - على أساس من مبررين: المبرر الأول هو روح دستور 1923 الذى وُضِع على أساس من مبدأ المواطنة الذى يعنى مدنية الدولة وليس غيرها. ويؤكد المستقبل الذى تتطلع إليه الدولة الوطنية المصرية الحديثة من تكوين مجتمع عصرى، يأخذ عن أوروبا صفات الحُكم فيها من لوازم ديمقراطية وحرية فكر وصعود لحراك اجتماعى لا يعرف تمييزًا قسريًّا بين الطبقات، لأنه حراك مفتوح دون عوائق ولا تمييز بين الأديان الموجودة داخل الوطن، والذى لا مرجع فيه إلا للدستور والقوانين الوضعية التى لا علاقة لها إلا بالعقد الاجتماعى بين كل الطوائف الدينية والطبقات الاجتماعية، ولا فارق فيه بين ذكر وأنثى. ولحسن الحظ فيما يقول طه حسين أن الله عصمنا من هذا المحظور ووقانا شروره التى شقيت بها أوروبا على المستوى الدينى. فالإسلام لا يعرف «الأكليروس» ولا يميز طبقة رجال الدين من سائر الطبقات. والإسلام قد ارتفع عن أن يجعل واسطة بين العبد وربه. فهذه السيئات التى جنتها أوروبا من دفاع رجال الدين عن سلطانهم لن نجنيها نحن إلا إذا أدخلنا على الإسلام ما ليس فيه وحمَّلناه ما لا يحتمل». ولولا إيمان المسلمين السابقين فى عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وتواصلها عبر التاريخ، ما كانت الحضارة الإسلامية الرائعة التى ازدهرت أيام بنى أمية وبنى العباس، ولا كان مجد المسلمين الذين أسسوا الحضارة الإسلامية التى كانت سببًا من أسباب نهضة الحضارة الأوروبية فى عصر النهضة الحديثة. ولذلك يرى طه حسين أن الحق كل الحق أن تنعكس «مدنية» الدولة على التعليم، فيغدو أغلبه مدنيًّا تحت إشراف الدولة وإلزاميًّا أيضًا، وإذا كانت كثرة المصريين المطلقة - فى النصف الثانى من الثلاثينيات - لا تزال جاهلة جهلًا مطبقًا، فلا بد أن تقوم الدولة الديموقراطية بتعليمها على النحو الملائم لأصول الديموقراطية وغاياتها. وللدولة وحدها الحق فى وضع المناهج والبرامج لهذا التعليم، وأن تقوم على تنفيذ هذه المناهج والبرامج، وأن تلاحظ ذلك ملاحظة صارمة دقيقة لتأكيد طابعها المدنى. ومن الخطر أن تنتفى عن التعليم صفة «المدنية» أو أن تغلب عليه أية صفة دينية، فإن لانتفاء الصفة المدنية من الأثر ما هو أخطر وأشنع عاقبة مما نتصوره. فالذى ينشئ «الوطنية الحديثة» فى قلوب الأجيال المقبلة من شباب المصريين، وما يزرع فيهم «حب الوطن المصرى»، وحماية «الاستقلال المصرى» وحياطة «الديموقراطية المصرية»، هو الدولة المدنية، فالتقصير فى التعليم المدنى تقصير فى ذات الوطن، وفى حماية الاستقلال، فثمار هذا التعليم الوطنى يجب أن تقوم على تعليم الشعب لغته العربية التى هى من أهم المقومات للشخصية الوطنية من جهة، جنبًا إلى جنب «التاريخ الوطنى» الذى هو أساس الوعى القومى الذى لا ينفصل عن الوعى الإنسانى. أما التعليم الدينى فى المدارس الأوَّلية فهو أمر لا يستحسنه طه حسين؛ لأنه مناقض للطبيعة المدنية للدولة، ولا يزرع فى النشء الروح الوطنية المصرية. فالتعليم الوطنى ينبغى أن تكون له برامجه الموحَّدة فى مناهج التعليم كلها، وبرامجه الوطنية المشتركة بين المصريين جميعًا، وضرورى أن يشترك الطلاب فى تلقى أنواع التعليم التى تؤكد حاجاتهم العلمية المختلفة. ومعنى هذا أن هناك مقدارًا من مناهج التعليم العام وبرامجه يجب أن يكون مشتركًا بين المصريين، ويجب أن تُشرف عليه الدولة بالملاحظة والتفتيش والامتحان على السواء، وأن يخضع له المصريون جميعًا، سواء تعلَّموا فى المدارس الرسمية أو فى المدارس المصرية الحرة أو فى المدارس الأجنبية أو فى الأزهر ومعاهده. «وما دام الأزهر حريصًا على أن يقوم بالتعليم الأوَّلى الأزهرى والتعليم الثانوى الأزهرى، فلا بد إذن من أن يتحقق الإشراف الدقيق للدولة على هذا التعليم الأوَّلى والثانوى فى الأزهر، وذلك كى تثبت الدولة أن المصريين جميعًا ينشأون على معرفة وطنهم وحبه، والاستعداد للتضحية فى سبيله، والإتقان للغته وتاريخه، وتقويمه ودينه. فإذا أخذ الأزهر فى تخصيص أبنائه فى العلوم الدينية بعد فراغهم من تعليمهم الثانوى، فله أن يذهب فى ذلك ما شاء من المذاهب الحرة، فى حدود حاجته الدينية والعلمية، وفى حدود القانون العام». وما يريده طه حسين تحديدًا، هو أن يلائم بين حقوق الأزهر والنظام الديموقراطى الصحيح، وألا يكون الأزهر دولة داخل الدولة، أو أن يكون له سلطان خاص يستطيع أن يطاول السلطان العام ويناوئه كما كان الحال عليه، إذا بقيت هيئة كبار العلماء، وأتيح للأزهر من القوانين ما أباح تخريج المعلمين فى مدارس الدولة على اختلافها. إن المهم فى التعليم الأوَّلى والثانوى وفى التعليم كله، هو الملاءمة مع «الحاجة الوطنية». وما يقصد إليه طه حسين تحديدًا أن ينفذ المنهج على وجهه الذى يؤكد البعد المدنى للتعليم والبعد الوطنى المدنى لا الدينى- حتى فى داخل المدارس الأزهرية، ذلك لأنه كان يؤمن أن «الذين ينهضون بالتعليم فى المعاهد الأوَّلية والثانوية الأزهرية جماعة من علماء الأزهر، لهم مكانهم من العلم بشئون الدين، ومن الفقه بفنونهم الأزهرية. ولكن هذا شيء والتعليم الأولى والثانوى على النحو الذى نطلبه وتقتضيه المصلحة الوطنية شيء آخر». ويعنى ذلك «أنه لا بد من أن يكون لوزارة المعارف إشراف دقيق على التعليم الأولى والثانوى فى الأزهر؛ لأن وزارة المعارف هى عين الدولة على هذين النوعين من التعليم». وإذا كانت الدولة (المدنية) تريد أن تأخذ أمور التعليم بالجد والحزم، فإن عليها أن تشرف على التعليم الدينى سواء فى معاهده الأولية أو الثانوية، فهى لا بد أن تكون تحت إشراف الدولة المدنية وليس تحت إشراف ديني؛ لأن هذا يتناقض مع طبيعة الدولة المدنية ودستورها القائم على مبدأ المواطنة المدنية وليس غيرها. ولا ينبغى بحال من الأحوال أن يشذ التعليم الأولى والثانوى عن الإشراف الدقيق لوزارة المعارف التى هى أداة الدولة المدنية فى الإشراف على التعليم. أما إذا انتهى الطالب من دراسته الأولية والثانوية، فله فى التعليم العالى أن يختار ما هو مؤهل له بحكم تكوينه وليس بحكم مجموعه. ويبدو أن طه حسين فى هذا الأمر كان حريصًا على تأكيد الطابع المدنى للتعليم حتى فى الجوانب الدينية. فنحن متدينون بحسب الوراثة فى مراحل حياتنا الأولى، ولا نختار دياناتنا بأنفسنا إلا بعد أن ننضج، أو نبلغ مرحلة الحُلُم كما كان يقول القدماء، أو مرحلة الوعى الكامل كما يقول المحدثون. فالإثابة أو المحاسبة على أفعال الإنسان لا تأتى إلا بعد أن يكتمل له العقل عند المعتزلة والفلاسفة من أمثال ابن رشد. ولذلك رأى المعتزلة أن الرسالات السماوية التى يأتى بها الأنبياء إنما هى على سبيل «اللطف من الله بعباده»، وأن المسلم مكلَّف بأن يؤمن بدين يختاره مع أول وعيه العقلى بوجوده فى الحياة. وهذا لا يتحقق إلا بعد اكتمال الوعى بالذات. وهو وعى لا يكتمل إلا مع اكتمال المرحلة الثانوية على وجه التقريب، ولذلك فإشراف الدولة المدنى حتى على التعليم الدينى واجب كل الوجوب، أما بعد ذلك فالطالب حر يختار ما يشاء من أنواع التعليم العالى. وهذا ما تسير عليه الدول المدنية فى العالم المتقدم كله، حيث لا يختار الطالب تعليمه الدينى إلا فى المرحلة الجامعية، فيختار عندئذ ما يُسمى بكليات اللاهوت أو»Divinity school» كما يحدث فى جامعة هارڤارد وغيرها من الجامعات المشابهة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية أو أوروبا. ويبدو أن هذا ما كان يريد أن يطبقه طه حسين على التعليم الدينى الذى يرى أن من واجب الدولة المدنية أن تشرف عليه تمامًا إلى أن يكمل الطالب نضجه ويستقبل التعليم العالى، فتتخلى الدولة عن التدخل فى شئون التعليم الدينى المسيحى أو الإسلامى (الأزهر)، فالتعليم العالى بوجه عام ينبغى أن يكون مستقلًا استقلالًا إداريًّا وماليًّا عن الدولة بكل المعانى، ولا يناقض السلطان العام، ولا المسئولية الوزارية أمام البرلمان، ولا سيادة الدولة على كل ما يجرى داخل حدودها». ويكمل طه حسين نظرته هذه بقوله: «إن التعليم الأوَّلى والثانوى مهما يكن، وفى أية بيئة من البيئات المصرية والأجنبية القائمة فى مصر يجب أن يخضع لإشراف الدولة، وأن تتولاه وزارة المعارف مباشرة أو تتبعه بالإشراف والتفتيش والامتحان. فيجب إذن أن يكون لوزارة المعارف مفتشون يلاحظون التعليم الأوَّلى والثانوى فى الأزهر ويرفعون تقاريرهم عنه إلى الوزارة، ويجب أن تشترك وزارة المعارف فى الامتحان لهذين النوعين من التعليم اشتراكًا يمكِّنها من الإشراف عليه والرضا عنه». ويؤكد هذا أن الدولة إذا تركت الصبية والأحداث للتعليم الأزهرى الخالص، ولم تشملهم بعنايتها وملاحظاتها الدقيقة المتصلة، عرَّضتهم لأن يُصاغوا صيغة قديمة، ويكوَّنوا تكوينًا قديمًا، يباعد بينهم وبين الحياة الحديثة التى لا بد لهم من الاتصال بها، والاشتراك فيها، فتعرضهم لطائفة غير قليلة من المصاعب التى تقوم فى سبيلهم حين ينهضون بأعباء الحياة العملية. فالمصلحة «الوطنية» العامة من جهة، ومصلحة التلاميذ والطلاب الأزهريين من جهة أخرى، تقتضيان إشراف وزارة المعارف (التربية والتعليم) على التعليم الأوَّلى والثانوى فى الأزهر؛ ذلك لأن هذا الإشراف يساعدهم على «إساغة الوطنية والقومية» بمعناهما الأوروبى الحديث؛ لأنه إذا كانت الوطنية تحصرها «الحدود الجغرافية الضيقة لأرض الوطن»، فالحدود القومية يحصرها التوجه خارج الحدود الضيقة، حيث تجمعنا وغيرنا من العرب الحدود القومية، ومع غيرنا من المسلمين الحدود الإسلامية. هذه هى الصورة الجديدة لمعانى القومية والوحدة الإسلامية التى يؤكدها طه حسين، على أساس من الوعى بالعصر الحديث الذى نعيش فيه، وبالوعى الحديث بما تقوم عليه حياة الأمم الإسلامية وعلاقاتها. والبداية فى ذلك كله هى «الحاجة الوطنية الجديدة» التى هى أساس «تكوين العقلية المصرية» التى تسعى إلى «تثبيت الديمقراطية وحياطة الاستقلال». ولولا ذلك ما كان النظام الديمقراطى يكفل لأبناء الوطن جميعًا الحياة والحرية والسلم. «وما أظن أن الديموقراطية تستطيع أن تكفل غرضًا من هذه الأغراض للشعب إذا قصَّرت فى تعميم التعليم الأوَّلى وأخذ الناس جميعًا به طوعًا أو كرهًا». فالدولة الديموقراطية مُلزمة أن تنشر التعليم الأوَّلى، وتقوم عليه لأغراض عدة، أولها: أن هذا التعليم الأوَّلى أيسر وسيلة يجب أن تكون فى يد الفرد ليستطيع أن يعيش. والثانى: أن يكون هذا التعليم أيسر وسيلة يجب أن تكون فى يد الدولة نفسها لتكوين الوحدة الوطنية، وإشعار الأمة حقها فى الوجود المستقل الحر، وواجبها للدفاع عن هذا الوجود. والثالث: أن هذا التعليم الأوَّلى هو الوسيلة الوحيدة فى يد الدولة لتُمكِّن الأمة من البقاء والاستمرار، لأنها بهذا التعليم الأوَّلى تضمن وحدة التراث الوطنى اليسير الذى ينبغى أن تنقله الأجيال إلى الأجيال، وأن يشترك فى تلقيه ونقله الأفراد جميعًا فى كل جيل». ولا يعنى ذلك فى النهاية إلا أن التعليم الصحيح والسليم هو الدعامة الأولى للحرية الصحيحة، فالتعليم هو الذى يُشعر الفرد بواجبه وحقه وبواجبات نُظرائه وحقوقهم، وهو الذى يشعر فى نفس الفرد هذا الشعور المدنى الشريف: شعور التضامن الاجتماعى الذى يجعله حريصًا على احترام حقوق نُظرائه عليه ليحترم نُظراؤه حقوقهم عليهم. ويتبع هذا ما يراه طه حسين من أن مهمة التعليم الأوَّلى أخطر من محو الأمية، فهى «مهمة وطنية» تؤسس فى وعى الناس «الأمانة الوطنية الحقة»، والوعى الأصيل لمعنى المواطنة»، والعلم بتاريخ الوطن والوطنية على السواء، شريطة أن نعتنى بالمعلم عنايتنا بالتعليم، وهو أمر يؤكده طه حسين الذى يقول: «لا أعرف شرًا على الحياة العقلية فى مصر من أن يكون المعلم الأوَّلى، كما هو الحال عندنا، سيئ الحال، منكسر النفس، محدود الأمل، شاعرًا بأنه يمثل أهون الطبقات على وزارة المعارف شأنًا». ولا أظن أن هناك كلامًا ينطبق على واقعنا المعاصر أكثر من هذا الكلام الذى لا يليق بزمن طه حسين وحده وإنما بزمننا الذى نعيش فيه، فما أظن إلا أن حال المعلم قد صار أسوأ مما كان عليه فى زمن طه حسين. وتأمل حولك فيمن تعرف من أحوال المعلمين فى وزارة التربية والتعليم الذين لا يعرفون كيف يقضون حياتهم فى شرف ونزاهة تؤكد معانى الوطنية والديموقراطية والحرية فى نفوسهم، ومن ثم واجبات الإخلاص فى تعليم طلابهم وتمكينهم من أن يكونوا مواطنين صالحين قادرين على أن يفهموا الحياة، وينهضوا بتبعاتها لأنفسهم وأُسرهم ووطنهم وللناس جميعًا. وما أشد حاجتنا إلى أن نسترجع كلمات طه حسين التى تؤكد أن كل تقصير من الدولة فى حق المعلم عن عمد أو عن اضطرار يعرِّضها لإثم التفريط فى حق الديموقراطية وفى حق الشعب على السواء. يستوى فى ذلك التعليم المدنى أو الأجنبى أو الدينى ما ظل الجميع تحت إشراف «الدولة الوطنية الديموقراطية» التى تصبغ بصبغتها المدنية كل ما يقع فى أرضها التى هى وطننا الذى نفتديه بأرواحنا. (وللمقال بقية) لمزيد من مقالات جابر عصفور