نشكو صحافة تنقرض، ومهنة تتراجع، ومؤسسات صحفية توشك على الانهيار، ولكن الحقيقية أنه ما للصحافة عدو سوانا! تراجعت الصحافة عندما غاب الود والاحترام بين أبناء المهنة، وساد الحقد والحسد والكراهية و«النفسنة» والتناحر على الألقاب والمناصب والمكافآت والترقيات، وصار الشغل الشاغل لكل واحد منا زميله، ماذا أكل وماذا شرب وكم فى جيبه. تراجعت الصحافة عندما تحول الصحفيون إلى موظفين، و«مكتبجية»، ورؤساء، ومديرين، ومراكز قوي، كل واحد منهم يحمل لقبا «يخض»، ولكن بلا أى عمل، فصرنا أشبه بجيش فى معركة قوامه ضباط فقط، بلا جنود! تراجعت الصحافة عندما ترك الصحفيون أعمالهم وتفرغوا للكتابة والنضال على الفيسبوك وتويتر لنشر آرائهم ومعتقداتهم الشخصية ومقالاتهم اللوذعية التى لم تنشر، والشتيمة والتطاول على خلق الله، بل والترويج كل ساعة، وكل دقيقة، لفكرة احتضار المهنة والمجد للإلكتروني، وتركوا الساحة لمسخرة اسمها صحافة المواطن، فكان الصحفى بذلك أشبه بالتاجر الذى ينهر زبائنه عن الشراء من متجره، لأن المتاجر الأخرى أفضل! تراجعت الصحافة عندما احترف الصحفيون رفع الصوت وافتعال الأزمات وامتهان القانون والصدام مع دبان وشهم، مع المجتمع تارة، ومع الدولة ومؤسساتها تارة أخري، تحت أوهام أنا صحفي، و«على راسى ريشة»، وسلطة رابعة. تراجعت الصحافة عندما بدأ الصحفيون موجة الحج الأصغر إلى الصحف الخاصة بحثا عن عمل إضافي، فازدوجت الهويات وضاع الانتماء، فكان بعضهم أشبه بمن يلعب للأهلى صباحا وللزمالك مساء! وتراجعت الصحافة أيضا عندما بدأ الصحفيون موجة «الحج الأكبر» إلى الفضائيات بحثا عن المال والشهرة ووضع صورهم على إعلانات كوبرى أكتوبر، تاركين صحفهم الأصلية «تضرب تقلب»، وتخسر! تراجعت الصحافة عندما استحل الصحفيون تسخير إمكانات ومقدرات صحفهم ومجلاتهم، من تليفونات وفاكسات وكمبيوترات وورق وصور وأحبار، للتخديم على أعمالهم الإضافية فى صحف ومجلات ووزارات وأماكن أخرى خاصة لسنوات. تراجعت الصحافة عندما ارتضى أبناؤها امتهان التمرد واحتراف التذمر، بادعاء البطولة الضائعة والعبقرية المقموعة، وإحالة أنفسهم إلى «تنابلة» اختياريين، لا يبذلون أى جهد، ويتقاضون الرواتب والحوافز والأرباح وكل أنواع الامتيازات، وينتظرون الترقيات والمناصب العليا والتكريم فى المناسبات. تراجعت الصحافة عندما تحولت مؤسساتها إلى مكان لتوقيع الحضور والانصراف وشرب الشاى والقهوة والكلام على خلق الله، وقبض الرواتب، وبس! تراجعت الصحافة عندما نفخت إداراتها فى «البالونة» أكثر من اللازم، فوسعت أعمالها وأنشطتها، ووظفت الآلاف دون وعى أو دراسة أو استحقاق، إلى أن صار هؤلاء عبئا حقيقيا على ميزانياتها وعلى سمعتها أمام المجتمع، فباتت البالونة الآن على وشك الانفجار، أو أنها فى أفضل الظروف تمر الآن بمرحلة تفريغ ما فيها من هواء. تراجعت الصحافة عندما ارتضى الصحفيون تحويل مؤسساتهم الصحفية إلى عزب ومنتجعات للراحة والاستجمام وتعيين الأبناء والأقارب والمعارف والحبايب على حساب أصحاب الموهبة والكفاءة. تراجعت الصحافة عندما تجاهل الصحفيون وقياداتهم أوائل كليات الإعلام وأقسام الصحافة والنابغين من خريجى الجامعات، وقبلوا تعيين «أرزقية» بعضهم لم يكن يحلم يوما بمجرد المرور من أمام باب أى مؤسسة صحفية. تراجعت الصحافة عندما تحولت المؤسسات الصحفية إلى معاقل انتخابية لخدمة مرشحين ومناضلين فى انتخابات نقابات وبرلمان وأندية رياضية ومشروعات تجارية واتحادات ملاك! تراجعت الصحافة عندما ارتضت أن تكون عدوا لنفسها، فصفقت وهللت وطبلت لمن رشقوها بالحجارة فى ذلك اليوم الأسود فى تاريخ مصر، الذى كان من أبرز مطالبه تدمير المؤسسات الصحفية وتسريح موظفيها. تراجعت الصحافة عندما سكتت إدارات مؤسسات صحفية على مندوبى إعلانات تضخموا وأثروا وتحول بعضهم إلى رجال أعمال، بعد أن سحبوا عملاءهم إلى مكاتبهم الخاصة، مسببين خرابا مستعجلا لصحفهم، التى قد تستطيع تحمل تراجع التوزيع أبو 2 جنيه للنسخة، ولكنها لا تستطيع الصدور ب«صفر إعلانات»! فعلنا كل ما يلزم لانهيار مهنة، فى زمن «إللى بيقع فيه ما بيقومش»! ومما زاد الطين بلة، أن مصر الآن فيها جيل يفخر بأنه لا يقرأ، ويرى أن وظيفة الصحف فقط هى «الأكل عليها»! ومع كل هذا، يبقى الأمل موجودا، ولا شيء مستحيل، فقد غاب الكتاب وعاد، وغاب الراديو أيضا وعاد، وقد تعود الصحافة أيضا إذا عادت المهنة، وتطهرت النفوس، والقلوب، والعقول، ونظر كل منا إلى نفسه أولا، وماذا فعل، وماذا يفعل، قبل توجيه اللوم لغيره، فكلنا مدانون، وما لمهنتنا عيب سوانا. أما كيف تعود الصحافة، وكيف يعود لها القاريء، فهذه قضية أخرى. لمزيد من مقالات ◀ هانى عسل