استكمالا للحديث عن أصول الدولة وضعف العائد عليها نعرج للحديث عن الهيئات الاقتصادية والتى تعتبر صيغة من الصيغ القانونية لكيانات اقتصادية مستقلة بالكامل عن الموازنة العامة للدولة وتعمل وفقا لأسس اقتصادية تمكنها من تحقيق فوائض مالية، او على الأقل تسهم فى تمويل نفسها ذاتيا، فى إطار القانون رقم 11 لسنة 1979 والذى تم بمقتضاه فصل موازنة هذه الهيئات عن الموازنة العامة، بحيث تقتصر العلاقة فيما بينهما على الفائض الذى يؤول للخزانة العامة او توفير مايتقرر اليها من دعم وقروض والتزامات. وقد اتسع نطاق هذه الهيئات منذ نشأتها وحتى الآن لتصل الى 49 هيئة فى العام المالى 2018/2019، مقابل 48 عام 2017/2018 وتعمل فى كل مناحى الاقتصاد القومي. وكان المفترض ان تحقق هذه الهيئات التوازن الاقتصادى والمالى بحيث تغطى نفقاتها من مواردها الذاتية، وبالتالى تخفف العبء عن الموازنة وهو مالم يتحقق على الاطلاق اذ ظلت هذه الهيئات تحقق خسائر متراكمة عبر السنوات، وهنا تشير بيانات ختامى 2017/2018 الى ان صافى العلاقة مع الموازنة وصلت الى 131 مليار جنيه بالسالب، حيث وصل ما آل الى الخزانة العامة منها الى 133 مليار جنيه مقابل ماقدمته الخزانة والذى وصل الى 264 مليار جنيه ويرجع السبب فى ذلك الى الاستمرار فى تحقيق خسائر فى النشاط بلغت 7٫23 مليار جنيه عام 2017/2018 أسهمت ثلاث هيئات فقط بنحو 92% من هذه الخسائر يأتى على رأسها السكك الحديدية بخسارة 10 مليارات ثم الهيئة الوطنية للإعلام بنحو 6٫2 مليار والسلع التموينية 5 مليارات. بل والأخطر من ذلك تراجع صافى حقوق الملكية لهذه الهيئات بصفة مستمرة، وذلك بعد ان بلغت الخسائر المرحلة نحو 130٫7 مليار جنيه. ومن الظواهر المهمة فى هذا الصدد تحقيق هيئة الأوقاف خسائر رغم ماتملكه من أصول وممتلكات كثيرة ومتعددة. وتراجع إجمالى فائض الحكومة المحقق من هذه الهيئات من 44.6 مليار جنيه عام 2013/2014 الى نحو 32 مليارا عام 2017/2018 من صافى الربح، والذى بلغ 72٫9 مليار جاء معظمه من قناة السويس بنسبة 64% من الإجمالي، ثم ميناء الاسكندرية بنحو 3 مليارات يليها البترول بنحو 2٫5 مليار، ثم الجهاز القومى لتنظيم الاتصالات بنحو 2019 مليونا أى ان هذه الهيئات أسهمت بنسبة 93% من اجمالى الفائض المحول للخزانة العامة كما تشير موازنة التحويلات الرأسمالية الى حصول بعض الهيئات على مساهمات من الخزانة العامة بنحو 7٫9 مليار جنيه، مقابل 6.5 مليار خلال عام 2013/2014، وذلك لتمويل سداد القروض المحلية والخارجية وعجز العمليات الجارية. حصلت على معظمها السكك الحديدية بمبلغ 2616 مليون جنيه والهيئة الوطنية للإعلام بنحو 1709 ملايين وهكذا باتت الموازنة العامة تتحمل سنويا أعباء مالية كبيرة جراء فشل هذه الهيئات فى تحقيق الأهداف المنوطة بها. وفى إطار محاولة الإصلاح صدر قرار حكومى بالموافقة على تعلية القروض التى حصلت عليها الى رؤوس أموالها مع إعفائها من سداد الأقساط والفوائد، وذلك فى إطار الرغبة لإعادة التوازن المالى إليها. ولكنه أدى إلى تضخم رءوس أموالها بما لا يتناسب مع نشاطها، خاصة ان هذه الزيادات فى رأس المال لا يقابلها أصول حقيقية، بل إن جزءا منها يمثل ما حصلت عليه من إعانات لسد العجز. كما صدرت قرارات اخرى بإسقاط جزء من القروض المستحقة على بعضها مثل السكك الحديدية والهيئة الوطنية للإعلام ورغم هذه الإجراءات فإنها لم تحقق تقدما يذكر. ويرجع السبب فى ذلك الى الاختلالات فى اقتصاديات تشغيلها ومراكزها المالية وهو ما يتمثل فى اختلال التوازن بين التكاليف والأسعار وقصور الموارد عن تغطية الاستخدامات مما يؤدى الى ازدياد العجز المرحل سنويا فضلا عن تآكل الأصول الحقيقية لهذه الهيئات. هذا فضلا عن قيامها بتنفيذ حجم كبير من الاستثمارات دون ان يقابله موارد ذاتية مناسبة وهو ما يؤدى إما إلى التأخر فى تنفيذ المشروعات لسنوات طويلة مما يؤدى الى المزيد من الطاقات العاطلة وهدر الموارد ناهيك عن حرمانها من العائد الذى ستدره هذه الاستثمارات. وإما يدفعها للاقتراض من بنك الاستثمار القومى والذى يقترض بدوره من الأوعية الادخارية فى المجتمع مما ينعكس بالضرورة على الدين العام وزيادته. ناهيك عن ان عددا من تلك الهيئات يغلب عليه الطابع الخدمى وليس الاقتصادى ويقدم مشروعات خدمية لخدمة المواطنين ولاتولد تدفقا نقديا يغطى أعباء الاقتراض والتمويل وهو ما ينعكس على التزامات الدولة قبل الدائنين لهذه الهيئات. خاصة ان الخزانة العامة مطالبة بسداد أى عجز فى سداد مديونياتها. إضافة لعدم وجود قواعد موحدة لتوزيع فائض العمليات الجارية، فالبعض يحتفظ بالفائض المحقق فى صورة فائض مرحل واحتياطات فى حين يؤول فائض بعض الهيئات بالكامل إلى الخزانة، لذا وجب إصدار تشريع لتعديل القوانين المنظمة لهذه المسألة. فضلا عن ضرورة النظر فى طبيعة هذه الهيئات جنبا الى جنب مع الهيئات الخدمية فى الموازنة العامة للدولة وتحويل الخدمى منها الى الموازنة وإخراج الهيئات ذات الطبيعة الاقتصادية من الموازنة، ويرتبط بذلك إعادة النظر فى تبويب هذه الهيئات وذلك بتبويبها فى مجموعات متجانسة، واتباع سياسات اقتصادية محددة تحقق الهدف من استقلالها على ان تقوم بإنتاج السلع والخدمات على أسس اقتصادية تمكنها من تحقيق فائض مالي. ومن الضرورى العمل على ان تقوم الهيئات التى تبيع إنتاجها بأسعار اجتماعية بالعمل على الوصول بالأسعار الى السعر الاقتصادى تدريجيا وخلال فترة زمنية محددة. وهذا لاينفى ضرورة العمل على دراسة اقتصاديات التشغيل بما يقضى على أوجه الإسراف ومراجعة نظم التشغيل وقوائم التكاليف لترشيد وضبط الإنفاق وتفعيله مع تعميق المحاسبة عن الأداء على مستوى مراكز المسئولية واستغلال الطاقات العاطلة. مع التخلص من الأنشطة غير الاقتصادية، والاهتمام بالصيانة الدورية لتحجيم الأعطال ولتأمين نظم التشغيل. وفض التشابكات المالية بين الهيئات الاقتصادية وبعضها بعضا، وبينها وبين الأجهزة الحكومية. جنبا الى جنب مع ضرورة إجراء الدراسات الجادة والموضوعية لكل هيئة على حدة لدراسة أسباب العجز، ووضع الحلول المناسبة لمساعدة تلك الهيئات على استعادة توازنها المالي. لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى