فى كل مناسبة ذات صلة طالما تحدث المثقفون أو كتبوا، وسمع الناس أو تداولوا كلاما كثيرا حول زعيمي «جمهورية يوليو»: جمال عبد الناصر وأنور السادات، حول أفضلية أيهما والطريق الذى سار فيه بمصر وصاغ أقدار المصريين، وهو جدل لم يحسم قط بين فريقين من الناس يرتاح أولهما إلى «ناصر»، ويميل الثانى إلى «السادات». بل إن جدلا جديدا أخذ يدور حول تفسير حالة الاستقطاب هذه بما تستنزفه من جهد عقلى ونفسى، فذهب البعض مثلا (المثقف الكبير د.محمد أبو الغار فى «المصرى اليوم»، والمفكر الرموق نبيل عبد الفتاح فى «الأهرام») إلى أن تاريخ مصر لم يكتب بوضوح، فما إن تنجلى أسراره حتى تتضح الصورة ويصدق الحكم. وظنى أن هذا الجدل لن يحسم أبدا بغض النظر عن أى وثائق ستظهر أو سرديات تاريخية ستكتب، لسبب بسيط وهو أن الخلاف حول الزعيمين، الوطنيين قطعا، إنما يتجذر فى الطبيعة الإنسانية نفسها، حيث يختلف الناس دوما حول رؤية العالم بقدر ما يختلفون حول أفضلية القيم والغايات والمثل العليا. فمثلا، كان عبد الناصر شخصا زاهدا أقرب إلى ناسك، لا تغريه مظاهر الحياة المادية، المأكل الملبس وأبهة القصور. وفى مقابل ذلك كان تواقا إلى القيم المعنوية كالكرامة الإنسانية والكبرياء الشخصية والاستقلال الوطنى، فأخذ يطلبها لبلده عندما اضطلع بمهمة حكمه، ثم لأمته عبر قيادته حركة التحرر العربى التى استثمر فيها بإخلاص جزءا كبيرا من طاقات مصر المادية والمعنوية، لامه الكثيرون عليه بدافع أنه كان خصما من رصيد المصلحة الوطنية التى يفسرونها تفسيرا ماديا مباشرا، بينما كان الرجل يتصور المصلحة الوطنية لمصر من منظور أوسع يجمع بين المادى والمثالى والتاريخى. وأخيرا قيادته حركة العالم الثالث النازعة إلى رفض حال الاستقطاب العالمى والخروج من نفق التبعية. زهده المادى وعدله الاجتماعى إلى نجاحه فى بناء مجتمع ديناميكى، على قاعدة حركة تصنيع كثيف، أضافا إلى الثروة القومية على نحو لم يقاربه من أسلافه إلا محمد على ثم طلعت حرب من موقعين وسياقين مختلفين. كما أفضى به التوق للمجد الأدبى إلى الاصطدام بالأقوياء فى الغرب الأورو أمريكى وإسرائيل وصولا إلى هزيمة يونيو 1967م التى اعتبرت لدى كثيرين بمنزلة نهاية تاريخ لقائد أساء تقدير قوته فوقع على أم رأسه. وهنا يقارن البعض بين رجل مكابر رحل وسيناء محتلة، وآخر واقعى انتصر بالسلاح جزئيا وحرر سيناء سلميا. لن نستطيع هنا إصدار حكم إلا بتفهم روحانية البطولة لدى ناصر، حيث تؤكد الأسطورة إمكانية انتصار الإنسان على ظلم الآلهة وتجهم القدر وسطوة الأعداء مادام انحاز إلى مثل الحياة العليا كالحق والعدل والحرية، فإذا مات بُعث في سواه، ملهما ومحفزا لمن والاه. ولم يكن عبد الناصر سوى بطل دافع عن حق وطنه وأمته، معتصما بكرامته وإرادته ضد هيمنة الغرب، الذى وضع نفسه موضع القدر، مدركا أنه مجرد محطة على طريق، سيأتى بعده من يواصل سيره، لكن المهم أن تكون نقطة الانطلاق صحيحة ونقطة الوصول سامية. فى المقابل حقق السادات انتصارا كبيرا، لم يعتمد على خطة تركها عبد الناصر كما يدعى ناصريون أيديولوجيون، لا يرون للسادات فضلا فى الحرب سوى أنه اتخذ القرار مضطرا تحت ضغط الجماهير، فهذا فهم غير صحيح وغير أخلاقى، لأن السادات كان وطنيا شجاعا، شديد الحنكة والدهاء، اتخذ قرار الحرب بعد تخطيط رائع وإعداد هائل. ولكن ما لا يستطيع عاقل إنكاره هو أن قلب الجيش المحارب بجنوده المتعلمين الذين استوعبوا الأسلحة الحديثة وباغتوا العدو بقدراتهم الجديدة هم نتاج التعليم الجامعى المجانى، درة تاج مشروع ناصر الاجتماعى، الذى لعب فيه دور أب حقيقى لطبقة وسطى عريضة أشرف بنفسه على تعليمها لتصبح قادرة على الترقى بجهدها الذاتى. لم يهزم المشروع إذن، حيث النصر محطة تالية ضرورية لهزيمة مؤقتة سعى «ناصر» على الفور لبلوغها وإلا ما امتلك شجاعة خوض حرب الاستنزاف الضروس. أما السادات، ورغم أن نزوعه إلى السلام لم يكن خيانة وطنية أو قومية تستحق الإدانة بل مجرد رؤية مغايرة للعالم تتسم بالواقعية ، فيستحق اللوم على نتائج سلام اعتبره ضرورة لوقف الحروب والشروع فى إعادة البناء، حيث توقفت الحرب فعلا ولكن البناء لم يبدأ أبدا، بل إن الحرب انتقلت إلى داخل البلاد بين الرجل ومعارضيه من كل الاتجاهات السياسية، وهو ما دفعه إلى استدعاء التيار الدينى لمحاربتهم، فإذا به يلقى حتفه على أيدي من اعتبرهم حلفاءه، تاركا مصر فى مهب رياح عاصفة. تفسير ذلك عندى أن بنية شخصيته كانت قلقة، متسرعة، متحفزة إلى جنى الثمر دون صبر طويل على الزرع. ففى مواجهة الاحتلال البريطانى، مثلا، مارس الاغتيال السياسي، وهو خيار يتسم بالمقامرة، أفضى به للسجن دون أثر يذكر، أما عبد الناصر فشرع فى بناء وئيد لتنظيم حرر مصر بعد سنوات من العمل الشاق. استثمر «ناصر» جهده فى تأسيس مشروع تحديثى عميق، كان بمنزلة جملة مفيدة، تعكس حلما بالمستقبل ولو كان أكبر من الإمكانات، فالجزء الذى يتحقق من حلم كبير يبقى كبيرا. وقد كانت سيناءالمحتلة والديمقراطية المحتجبة خلف ظلال الأبوية، بمنزلة الثقب الأسود فى فضاء الحلم الكبير. أما السادات فلم يملك مشروعا، بل قام بمجموعة أفعال بعضها عظيم لكنها جميعا متناقضة: فالحرب ثم السلام، تأسيس التجربة الحزبية ثم اعتقال قادتها، إخراج المثقفين اليساريين من سجون ناصر ثم اعتقال عمومهم، وضع دستور 1971م فضيلته الأساسية تحجيم مدد الرئاسة ثم الانقلاب عليه. وهكذا لم تكن سوءة عصر السادات فى نهج معين بل فى غياب منهج متسق يصنع جملة مفيدة ويضفى المعنى على الوجود التاريخى لمصر. ورغم ذلك سيظل الواقعيون يحبون السادات، كما يحن المثاليون إلى ناصر. أما البسطاء والعاديون، عند الشدائد والملمات، فسيرفعون كالعادة صورة البطل، الذى منحهم شعورا عميقا بالثقة فى النفس كأمة، حتى وهم مهزومين عسكريا، فيما كان سلفه، وهو منتصر، يؤكد لهم أن 99% من أوراق لعبة الأمم فى يد أعدائهم. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم