عام الملفات المؤجلة التى تنتظر الحسم، ربما تكون هذه العبارة هى أدق وأبسط وصف لما ينتظر فرنسا خلال الأسابيع والشهور المقبلة، بعد أن سادت حالة من الترقب بسبب الأحداث الدامية خلال احتجاجات حركة السترات الصفراء، التى وضعت الرئيس ماكرون وحكومته أمام تحديات صعبة بعد عام ونصف العام فقط من دخوله الإليزية، إلى الحد الذى دفع البعض لاعتبارها خطا فاصلا جديدا فى الحياة السياسية الفرنسية، بسبب تشابك ملفاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من ناحية، وانعكاستها الدولية من ناحية أخرى، سواء على النطاق الأوروبى أو بالحليف الأمريكى، الذى حرص على الدخول على خط الأزمة بعدد من التغريدات التى عكست موقف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من نظيره الفرنسى. ولعل دعوة ماكرون لتنظيم ما اسماه بالنقاش الوطنى الكبير، الذى سيضم أطيافا سياسية واقتصادية واجتماعية، دليلا على خطورة الموقف الذى تواجهه بلاده، خاصة أنه من المقرر أن يستمر هذا النقاش حتى مارس القادم، ويكرس لبحث أربعة ملفات كبرى، هى الديمقراطية وتنظيم الدولة والاقتصاد والمواطنة، والملف الأخير يتضمن قضايا الهجرة ومشاكلها، إلى جانب قضية العلاقة بالاتحاد الأوروبى، وكلها بإجماع الآراء قضايا معلقة ومؤجلة للعام الجديد ومفتوحة على احتمالات وأسئلة كبرى فى الحياة السياسية والاقتصادية الفرنسية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن حالة الضبابية المسيطرة على المشهد الفرنسى، رغم إجراءات وخطوات التهدئة، وضعت ماكرون أمام اختيار صعب لاستعادة مصداقيته السياسية من ناحية والوفاء بأجندته الاصلاحية من ناحية أخرى، فى ظل تراجعه عن قراراته الاقتصادية التى كانت سببا فى تفجر الاحتجاجات. ومن وجهة نظر المراقبين، فقد كانت أمام ماكرون فرصة واسعة لكسب ثقة المواطنين فى ظل تراجع شعبية الأحزاب التقليدية، غير أنه لم ينجح فى استغلال ذلك، بل على العكس زادت الفجوة بينه وبين المواطنين، وتراجعت شعبيته إلى حد كبير بشكل يهدد مستقبله السياسى، وربما يؤثر على فرص ترشحه لفترة رئاسية جديدة. وهو ما يعنى أن مهمته باتت صعبة للغاية، وما يزيد من صعوبتها قدرته على الصمود أمام اليمين المتطرف والحركات الشعبوية التى وجدت فى الأحداث الاخيرة فرصتها فى الانتقام من ماكرون، خاصة أن لا أحد يعرف تحديدا ما إذا كانت ستتوقف الاحتجاجات وإلى أين سيأخذها المستقبل، وهل يمكن أن تنتقل العدوى إلى دول أوروبية أخرى، وذلك بعد أن استغلت هذه التيارات الأحداث الجارية، ووظفتها لخدمة أجندتها الرافضة للرأسمالية المتوحشة وللمهاجرين وللبقاء فى الاتحاد الأوروبى، مع المطالبة بالرجوع إلى الهوية القومية. أما الملف الأخر الذى لا يقل أهمية فهو الملف الاقتصادى، ففى الوقت الذى اعتبر فيه المراقبون أن تراجع أعداد المحتجين يعد مؤشرًا على رضا المواطنين عن الإجراءات المعلنة من قبل الرئيس، فإن هناك من يرى الوضع من منظور أكثر شمولا، ويعتبر أن الإجراءات التى أعلنها ماكرون ستتسبب فى أزمة للاقتصاد الفرنسى، وستشكل عبئا جديدا عليه خلال العام المقبل، حيث قدرت تكلفتها بنحو عشرة مليارات يورو، وستضطر الدولة للسحب من الاحتياطى لتمويل هذه الإجراءات، وهو ما سيؤدى بدوره إلى تجاوز العجز فى الميزانية نسبة ال 3% التى يقرها الاتحاد الأوروبى، فاذا أضيف لذلك حساب الخسائر المادية التى تكبدها الاقتصاد الفرنسى بسبب الأضرار التى لحقت بمختلف القطاعات الحيوية وقدرت بملايين اليوروهات، وأزمات الضواحى التى ما تلبث أن تخمد حتى تعود جذوتها من جديد، سندرك على الفور كم الأعباء التى سيتحملها الاقتصاد فى العام الجديد. وفى كل الأحوال فقد كشفت التطورات الأخيرة أن فرنسا تقف على مفترق طرق، فهل سيقوى ماكرون على إدارة هذه الأزمة وينتشل البلاد من براثن المجهول، أم أن الاحتجاجات ستأتى باليمين المتطرف للحكم، والإجابة تكمن فى طريقة إدارة هذه الأزمة، لأنها ستكون القول الفصل فى معرفة إلى أين تتجه فرنسا.