لم أجد عنوانا، أو جملة، أستقبل بها عام 2019، مثلما وجدت عنوان الرواية التى كتبتها المؤلفة الروسية إلينا سبرياكوفا، عن الحياة فى مصر. وتحكى الرواية عن مجموعة من أبناء بلدها الذين هاجروا من روسيا عام 1992 ليستكملوا حياتهم فى أرض غريبة عنهم، بعد حرب شوارع فى موسكو، كادت تقضى عليهم، كما قضت على الاتحاد السوفيتى، ففروا إلى مصر طلبا للأمان. هذه القصة، عندما رجعت إليها، ذكرتنى بمصر أول وطن للاجئين فى العالم، لاذ به الناس العاديون، كما احتضن العلماء والزعماء السياسيين الذين لفظتهم بلادهم فى أعقاب الحروب، والثورات، والانتفاضات، والكوارث عموما، وقد أصبحوا بلا مأوى، وانعدمت بهم كل سبل الحياة إلا فى مصر، حتى الدول العظمى فى أمريكا وأوروبا لم تستطع أن تتخذ قرارا باستضافتهم وحمايتهم إنسانيا، فكانت مصر هى بلد الإنسانية، وهى الملجأ الذى احتضنهم، وإليها لجأوا طلبا للحياة. وجرى كل هذا الاحتضان للإخوة العرب القادمين من بلادهم بعد الكوارث التى حلت هناك، سواء كانوا من العراقيين، أو السوريين، وقبلهم الفلسطينيون، والسودانيون، أو أهل إفريقيا عموما، فلم نكن الأرض الآمنة لإخواننا العرب والأفارقة فقط، بل كنا كذلك لكل بلاد العالم. لكننى استغربت بشدة، من اختفاء الاسم الأصلى للرواية الروسية، وقد حولتها السينما المصرية إلى فيلم مشترك مع روسيا، يظهر قريبا على شاشات السينما العالمية، تحت اسم تجارى، فقد اختاروا له اسم ماتريوشكا، وهى الدمية الروسية الأصل التى تتضمن عدة دمى أخرى، بأحجام مختلفة، بحيث إن الكبرى تحوى الصغرى وهكذا، وترجمة ماتريوشكا هنا تختلف عن القصة الأصلية التى تعود إلى الأساطير الشعبية المعروفة فى القرن التاسع عشر، حين اخترع الخراط الروسى فلاديمير زفيوزدوتشكين شكل الماتريوشكا الروسية، ولكن الفيلم يعكس أن مصر هى الأم الحاضنة للعرائس الأصغر التى كانت تبحث عن المأوى، والحياة الآمنة، بأى شكل، بعيدا عن العدوان والخوف، فوجدوها فى مصر الآمنة. وبذلك تثبت هذه الرواية، والفيلم العبقرى الذى يجسدها، حقيقة خالدة، هى أن مصر لم تكن مأوى أو حضنا دافئا للعرب والأفارقة وحدهم الذين واجهوا أزمات كبرى أو عاتية، لكنها كانت الحاضنة للعالم كله، مترجمة القصص الدينية القديمة، أن على أرضها عاشت كل الأجناس، بل احتضنت ولد آدم أبو البشرية، حام وسام معا، أى الغرب والشرق معا، المهاجر إليها من الروس أو أبناء أوروبا الشرقية بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية، وتوابعها فى شرق أوروبا، وقد بنوا مستعمرات الروس، وباقى البلدان فى القاهرة، والغردقة، وشرم الشيخ، وعاشوا وعملوا فى ربوعها بكل حرية، ولهم ما للمصريين من حقوق، ولم تتاجر مصر بهم،أو بقضية اللاجئين عموما فى كل تاريخها، مثلما هاجر إليها أبناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وسقوط برلين، فقد كانت مصر ممرا لكل المطاردين فى أوروبا، أو المتهمين بمساعدة النازى أو التعاون معه، استقبلهم المصريون فى كل شوارعنا وأحيائنا، بل فى القرى والمدن المصرية، ورغم مرور أكثر من سبعة عقود على سقوط النازية، فإن ما يتعلق بها من أسرار أو خفايا مازال يثير فضولا من الخيال لدى المتابعين، وهناك قصص وأفلام تحكى عن أن مصر الرسمية استقبلت كثيرا من النازيين بترحاب، سواء كانوا من الألمان أو الإيطاليين للعمل والحياة، بل إن كثيرا من العلماء الألمان عملوا وواصلوا مسيرة الحياة، وقد تم ذلك فى العهدين (الملكى والجمهوري) بنفس روح التسامح والمحبة المصرية للإنسان، ومازالت قصص العلماء الألمان الذين عملوا مع مصر بعد الحرب العالمية الثانية معروفة، وقد استهدفتهم يد الموساد الإسرائيلى بتهديدهم وإرهاب عائلاتهم. ولم تكن القصة الروسية الحالية هى الأولى، فهناك كتاب آخر يعرف باسم (جنة الجزار فى مصر)، لأحد الضباط الذين هاجروا، ووجدوا فى أحياء مصر (المعادى) ملاذا آمنا، هو الضابط الطبيب الألمانى كارل ديبوش الذى عاش ومات فى منتصف السبعينيات، ونجا من الكثير من محاولات الاغتيال الإسرائيلية، وكان يعمل بحى المعادى، والآخر كان أربيرت هايم الملقب ب ( طبيب الموت) بسبب تجاربه على السجناء ومعتقلى السجون النازية، وقد عاش فى حى الموسكى. هذه هى مصر أرض الكنانة، ومهد الحضارات.. قصة (ابتسم أنت فى مصر) أو فيلم ماتريوشكا أو جنة الجزار فى مصر هى تكرار وتأكيد لكلمات قرآنية كريمة: «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِين» ( يوسف 99). وكان سيدنا آدم عليه السلام أول من دعا لمصر بالخصب والبركة والخير والرحمة والبر والتقوى، ودعا لها أيضا سيدنا نوح عليه السلام، وسماها الأرض الطيبة التى هى أم الدنيا، وأمضى سيدنا يوسف عليه السلام حياته كلها فى مصر، فكانت مقاما طيبا، وأتى بقومه جميعا من بلاد الشام للإقامة فى مصر، وهى التى تجلى الله سبحانه وتعالى فيها لموسى، وكان كل من يلقاه يحبه، وألقيت عليه محبة منى، وكلمه الله، وهو على أرض مصر تكليما، ومصر رغم قوتها،عبر التاريخ، لم تكن معتدية أبدا، ولم تكن غازية أبدا، بل كانت حامية للدين، وسندا لإخوانها العرب والمسلمين والإنسانية عموما.. تذكرت الفيلم والقصة، وقلت إن عام 2019 سيكون خيرا وازدهارا على مصر والمصريين.. لمزيد من مقالات أسامة سرايا