كتب د. جمال عبد الجواد، الخبير الإستراتيجى البارز قبل أسبوعين مقالا ضافيا تحت عنوان استفهامى هو: مستوى المعيشة أم جودة الحياة؟, أثار فيه نقاطا مهمة تستحق التأمل والنقاش، يأتى على رأسها اثنتان: الأولى أن جودة نمط الحياة حيث تتوافر النظافة ويسود النظام ويعم الهدوء وينتشر الجمال، تبدو أساسية فى شعور الإنسان بالرضا، ربما أكثر من مستوى الدخل. والثانية أن ثمة حنينا جارفا لدى المصريين إلى ما يعتبرونه عصرا ذهبيا ساد فيه نمط الحياة هذا، يختلف الناس على تحديده بدقة، وإن تصوروه فى العقود الستة الأولى من القرن العشرين. والحقيقة أن المقال يكشف عن بعض الجوانب العميقة لأزمة مصر الخانقة، التى يختزلها البعض فى فقر اقتصادى لا تملك الحكومة معه دفعا، بينما يرى البعض الآخر، وأنا منهم، أن أزمتنا الحقيقية تكمن فى النقص المتزايد للتحضر، أى فقدان القيم المتمدينة التى تنظم حياة المجتمعات وتلهم قدرتها على التفاعل السلس والآمن بدرجة معقولة من التسامح والرضا والبهجة، وهى حالة يسهم المال بدور فى دعمها ولكنه ليس العامل الحاسم فى صوغها، بل تسبقه عناصر أخرى تتعلق بنمط الحياة كما أشار د جمال. ولعل الناظر فى تاريخ مصر المعاصر يلحظ كيف تعاقبت ثلاثة أنماط للحياة. فأولا ثمة نمط أرستقراطى ولد فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، أى منذ عصر اسماعيل باشا الذى بنى القاهرة الخديوية كعاصمة حديثة، لها طابع معمارى متميز ووسط تجارى جميل ذو طابع باريسى، وبها أيضا مجلس شورى النواب، ودار أوبرا تعرض أكثر الفنون الموسيقية حداثة. ثم نما هذا النمط فى النصف الأول من القرن العشرين، وبالذات عقب ثورة 1919، ودستور 1923م، حيث أضفيت على الروح الارستقراطية مسحة ليبرالية زادته بريقا ومكنته من صنع صورة رائجة عن مصر كبلد متمدين ومتسامح وديمقراطى بل مستقر اقتصاديا، يتمتع بعملة قوية ودائن لبريطانيا العظمى. قطعا لم يكن عموم المصريين مندرجين فى هذا النمط الذى اقتصر على الأعيان فى الحضر والريف، مع شريحة نحيفة جدا من الطبقة الوسطى الصاعدة على قاعدة بيروقراطية الدولة الحديثة والجيش الوطنى، فضلا عن العناصر الأجنبية، سواء المرتبطة بالاحتلال البريطانى أو ذوى الأصول المختلطة المرتبطين بالأسرة العلوية وحواشيها من الألبان والأرمن والشركس، ناهيك عن المكون اليهودى ذوى الأصول المصرية غير البعيدة، ونظيره اليونانى الذى أعطى مدينة الإسكندرية بالذات طابعها العالمى. كان هذا النمط راقيا فعلا، ينطوى فضلا عن عناصر جودة الحياة التى أشار إليها د. جمال على قيم أخرى كالتعددية السياسية، والحيوية المدنية لمجتمع نشط يمتلك مبادرات أسهمت فى بناء العديد من المؤسسات التعليمية والصحية والثقافية يكفى أن نذكر منها جامعة فؤاد الأول (1908) التى صارت جامعة القاهرة 1925م. غير أنه كان نخبويا تماما، حُرم منه عموم المصريين فى المدن وأغلبيتهم الساحقة فى الريف. وبينما كان العقاد يهدد بضرب أكبر رأس فى البلاد لو تعدى على الدستور، كان الفلاحون يضربون بالسياط فى وسايا الإقطاع بطول مصر وعرضها. عوقب العقاد بالسجن على قوله، ولم يستطع البرلمان بأغلبيته الوفدية إقرار مشروع مكافحة الحفاء فى الريف، ناهيك عن مشروع متواضع لتحديد الملكية الزراعية بألف فدان. لم يكن واقع الريف المرير مانعا للموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب من الصدح بأغنيته الشهيرة محلاها عيشة الفلاح فى فيلم أبيض وأسود، يذهب فيه إلى القرية ليأكل من خيراتها فطيرا شهيا وعسلا أبيض مع البط والفراخ، ثم يتمشى فى حدائق غناء، من دون أن يدرك، أو لعله كان مدركا ومتواطئا، أن تلك الخيرات كانت تعد للزوار الكبار من المدينة، خصوصا البيه الكبير أو الباشا الاقطاعى، ولكنها محرمة على الفلاح الذى زرعها أو رعاها، وتلك هى المعضلة الكبرى للحقبة شبه الليبرالية التى فشل الوفد باسم الحركة الوطنية المصرية فى التعاطى معها، ناهيك بالطبع عن قضية الاستقلال التام. وثمة نمط حياة ثان اشتراكى صاغه جمال عبد الناصر فى الربع الثالث من القرن العشرين، كان بالقطع أكثر مساواة وعدلا، نما على أرضية طبقة وسطى عريضة صنعها التعليم المجانى والتصنيع الكثيف والتوظيف الواسع فى دولاب الدولة الناهضة، فكان متاحا للشاب خريج الجامعة، ومن دون انتظار طويل، الحصول على وظيفة بل وتأجير مسكن يتزوج فيه من زميلة الجامعة التى أحبها من دون انتظار عشر سنوات تذبل فيها مشاعره، أو اضطرار لسفر طويل إلى بلد خليجى يفقد خلاله ثقافته المتفتحة، ويعود محملا بالجرثومة السلفية، مع روح كئيبة وثقل ظل مرعب. لقد ساد آنذاك ما يمكن وصفه ب (الاستايل المصرى) حيث التعليم المجانى والتوظيف الواسع، والسكن المؤجر، وحب الجامعة البرىء قادر على إنتاج حياة مستقرة. صحيح أن هذا النمط لم يكن فائق الجودة، ولكنه كان بالغ الحيوية، خصوصا وقد ارتبط بدولة فاعلة فى محيطها الدولى، وفعالة فى إدارة وتنظيم مرافق الحياة لمجتمعها، عبر نشر الثقافة والفنون الراقية والشعبية فى عموم البلاد، ورعاية المبدعين من الكتاب والفنانين ولو فى سياق تعبوى، حيث كانت الدولة قوية وفاعلة، بينما المجتمع المدنى ضعيف وربما غائب. وثمة أخيرا نمط حياة عشوائى أخذ ينمو منذ السبعينيات على أرضية ذبول شديد للمجتمع والدولة معا، فالمجتمع المدنى كان فقد قدرته على العمل منذ الخمسينيات، أما الدولة قد فكانت فقدت قدرتها على تنظيمه عندما عجزت عن ضبط الكود العمرانى منذ السبعينيات، وتوقفت عن التوظيف الواسع فى الثمانينيات، ثم عن رعاية التعليم والصحة والتثقيف فى التسعينيات. ومن هنا ولد العمران العشوائى، والمرور العشوائى فالفن العشوائى، وهى سلسلة أزمات متشابكة قضت على جميع عناصر جودة الحياة من نظافة ونظام وهدوء وجمال، ونشرت القبح على نطاق واسع. فإذا ما أضفنا إلى ذلك الفساد البيروقراطى، وغياب التعددية السياسية، وقصور عمل أغلب المؤسسات الخدمية، لأدركنا لماذا أصبح المصريون شعبا غير قادر على البهجة أو حتى العمل، ولماذا يشعر أغلبهم بالحنين إلى العهد الناصرى أكثر من غيره، حيث ساد نمط حياة إنسانى، مفعم بالمساواة والعدالة والأمل رغم سلطويته التى أفضت إلى نهايته. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم