يقول الشاعر والناقد ت. س إليوت إن معنى كلمة «ثقافة» بالنسبة إلى المجتمع كله، هو المعنى الذى يجب أن نبحثه أولا. ونحن حين نستعمل كلمة «الثقافة» للدلالة على التصرف فى كائنات حية دنيا كما هو الحال فى عمل البكتريولوجى أو المزارع يكون المعنى عندئذ واضحا وبدرجة كافية، لأننا نجد اتفاقا كاملا فى الرأى بالنسبة إلى الغايات التى نبغى الوصول إليها، ويمكننا أن نتفق إذا وصلنا إليها أو لم نصل. أما حين نستخدم الثقافة لترقية العقل البشرى والروح البشرية وهو السبيل إلى السمو. فإن احتمال اتفاقنا على ماهى الثقافة يكون أقل. وتاريخ الكلمة نفسها باعتبارها حالة على شيء يقصد إليه قصدا واعيا فى أمور البشر، وهذا المعنى كما يقول إليوت ليس بالتاريخ الطويل فى اللغة الإنجليزية كما تستعمل لما يقوم به البكتريولوجى من «زرع» الميكروبات ونحوها. أما بالنسبة لمعنى كلمة «ثقافة» فى اللغة العربية فهو معنى مجازى مأخوذ من عملية تثقيف الرمح أى تسويته. وتعنى كلمة ثقافة «أيضا بمعنى شيء يتوصل إليه بالجهد المقصود تكون أقرب إلى الفهم حين نتكلم عن تثقيف الفرد الذى ننظر إلى ثقافته التى قامت على أساس من ثقافة الفئة والمجتمع. وخير ما يبين الفرق بين الاستعمالات الثلاثة للكلمة (ثقافة الفرد ثقافة الفئة ثقافة المجتمع) أن نسأل إلى أى مدى يكون وجود هدف يدركه الأفراد بأن تحصيل الثقافة هو شيء له معنى بالنسبة لكل من يحرص عليها من الأفراد والفئة والمجتمع باعتباره كلا. ويمكن تجنب كثير من الاضطراب إذا امتنعنا عن أن نضع أمام الفئة مالا يمكن أن يكون إلا هدفا للفرد، وأمام المجتمع باعتباره كل مالا يمكن أن يكون إلا هدفا لفئة. ولقد جرت عادة رجال الأدب والأخلاق على أن يتحدثوا عن الثقافة بالمعنيين الأولين، ولاسيما المعنى الأول دون أن يصلوا بينهما وبين المعنى الثالث. وأول مثل يحضرنا لهذا الاختيار هو مافعله ماثيو أرنولد فى كتابه المعروف «الثقافة والفوضى Culrure and Anachy»، فإن أرنولد معنى أولا بالفرد و «الكمال» الذى ينبغى أن يسعى إليه، وذلك على اعتباره القيمة الكبري. صحيح أنه فى تقسيمه المشهور. البرابرة والسوقة والعامة» يعنى بتقسيم الطبقات، ولكن نقده مقصور على إدانة تلك الطبقات لعدم إكتمالها، فهو لايتقدم إلى البحث عما ينبغى أن تكون عليه الوظيفة الصحيحة لكل طبقة أو «كمال» كل طبقة. والنتيجة إذن هى حث الفرد الذى يريد أن يصل إلى ذلك النوع الخاص من الكمال الذى يطلق عليه أرنولد «الثقافة» حيث نجد مثل هذا الفرد يعلو على نقائص كل طبقة، بدلا من أن يحقق أقصى مايمكن تحقيقه من مثلها العليا. وحول ماتؤديه كلمة «الثقافة» عند أرنولد يرجع فى قسم منه إلى خلو الصورة عنده من الأساس الاجتماعي. وقد فاته أيضا وجه آخر من وجوه استعمال كلمة «الثقافة» يضاف إلى الوجوه الثلاثة التى سبقت الإشارة إليها. فهناك أنواع شتى من الاكتساب يمكن أن تعنيها فى المناسبات المختلفة. فقد نفكر فى تهذيب السلوك أو «الذوق» و «الأدب» وفى هذه الحالة نفكر أولا فى طبقة اجتماعية، وفى الفرد الممتاز على أنه ممثل لخير مافى هذه الطبقة. وقد نفكر فى «العلم» والمعرفة الوثيقة بذخائر أو حكمة الماضي، وفى هذه الحالة يكون ذو الثقافة عندنا هو العالم. وقد نفكر فى الفلسفة بأعم معانيها أى الاهتمام بالأفكار المجردة، مع شيء من القدرة على معالجتها وفى هذه الحالة قد تعنى من يسمى بالمثقف (مع ملاحظة أن هذه الكلمة يجرى استخدامها الآن استخداما مطاطا جدا، بحيث تشمل أشخاصا كثيرين لايتميزون بثقافة الفعل مثل الكثيرين من مدعى الثقافة فى مصر). وقد نفكر فى الفنون، وفى هذه الحالة نعنى الفنان والهاوي، ولكن قلما نعنى هذه الأشياء كلها مجتمعة. ونحن إذا نظرنا إلى مناشط الثقافة المختلفة فيجب أن نستنتج أن الكمال فى أى واحد منها دون الأخريات لايمكن أن يسبغ الثقافة على أحد. فنحن نعلم أن السلوك المهذب دون تعليم أو فكر أو حساسية إنما هو حذلقة، وأن القدرة الفكرية مجردة من الصفات الأكثر إنسانية لايستحق الإعجاب إلا كما يستحقه ذكاء طفل معجزة فى لعب الشطرنج، وأن الفنون دون إطار فكرى زيف وخواء. وإذا كنا لانجد الثقافة فى أى واحدة هذه الكمالات» بمفردها فإننا كذلك يجب ألا نتوقع فى أى فرد واحد أن يكون كاملا فى جميعها. إذن نستنتج أن الفرد الكامل الثقافة ماهو إلا محض خيال. ولنبحث عن الثقافة لا فى فرد أو جماعة من الأفراد، بل فى نطاق من أوسع وأوسع، وتنتهى فى النهاية فى هيئة المجتمع ككل. ويعلق إليوت على ذلك بأن الناس يسارعون دائما إلى إعتبار أنفسهم أهل ثقافة على أساس إتقانهم شيئا واحدا فى حين لاتعوزهم نواح أخرى فحسب بل لايشعرون بهذه النواحى التى تعوزهم (فهذا للأسف مايحدث عندنا فى مصر). فأى فنان من أى نوع كان لايلزم من هذا السبب وحده أن يكون ذا ثقافة، ولو كان فنانا عظيما فالفنانون كثيرا مايكونون غير حساسين لفنون أخرى غير تلك التى يمارسونها، كما أنهم يكونون فى بعض الأحيان سيئ السلوك أو فقراء فى المواهب الفكرية وليس هو الشخص الذى يضيف إلى الثقافة دائما «شخصا مثقفا» مهما تكن قيمة مايضيف. ولاينتج من ذلك أن الكلام عن ثقافة فرد أو فئة أو طبقة هو كلام لامعنى له. إنما نبغى أن ثقافة الفرد لايمكن أن تنفصل عن ثقافة الفئة، وأن ثقافة الفئة لايمكن أن تجرد من ثقافة المجتمع كله، وأن فكرتنا عن «الكمال» يجب أن تراعى المعانى الثلاثة للثقافة فى وقت واحد. ولايمكن أن يتحقق بالنسبة للجماعات المنفصلة التماسك الضرورى للثقافة إلا بالتداخل والمجاراة فى الاهتمامات وبالمشاركة والتقدير المتبادل. فإن الدين لايحتاج إلى هيئة من رجال الدين يعرفون مايعملون به بل إلى هيئة من العابدين يعرفون ماذا يعملون. ومن الواضح أن مناشط الثقافة المختلفة تتشابك تشابكا لا انفصام له فى الجماعات الأقرب إلى البلدان. وكلما زادت المدنية تعقيدا ظهر فيها المزيد من التخصص المهني. والفن والدين والعلم والسياسة لايمكن تصورها بمعزل بعضها عن بعض إلا بعد ذلك بمراحل. كما تصبح وظائف الأفراد وراثية. والوظيفة الوراثية تجمد فى تميز طبقى أو طائفي. والتميز الطائفى يؤدى إلى صراع وكذلك الدين والسياسة والعلم والفن تصل إلى نقطة يكون عندها صراع واع بينها من أجل الاستقلال أو السيادة. يمثل هنا الاصطدام مرحلة شديدة التقدم من المدنية، لأن الصراع يجب أن يكون ذا معنى فى تجربة المشاهدين قبل أن يجعله المؤلف المسرحى منطوقا وقبل أن يلقى من الجمهور الاستجابة التى يحتاج إليها المؤلف المسرحي. لمزيد من مقالات مصطفى محرم