فى واقع القوى الناعمة المصرية أوجاعٌ تتجاوز حالة الرفاهية المرتبطة بأخبار نجوم التمثيل على مستوى الصف الأول، وليس الحديث عنها من قبيل الانفصال عن أوجاع الآن الوطنية، إذ إن صناعة الوعى باتت هدفًا فى عصر عالم يتأهب للتشكل من جديد وأسلحتها غدت فاعلة فى معركة الوجود الدائرة، ولعل النموذج (التركي) فى استخدام سلاح الدراما أخيرا خير مِثال على أهمية تفعيل الدراما ضمن منظومة الأدوات المحققة للاستراتيجيات، وليس ببعيد عن واقع مصر ما كان من مكانة إقليمية ودولية أسهم فى إرساء قواعدها الحضور الفاعل للقوى المصرية الناعمة، وبالتالى فإن إرثًا مصرياً يمكن البناء عليه فى مرحلة السير صوب بعثٍ جديد لمصر، وهو ما يدفع إلى مُعالجة مشهد صُنَّاع الدراما فى إطار كونها صناعة إستراتيجية وبانفصال عن المواد الاستهلاكية الخاصة بأسماء كبار نجوم التمثيل وأجورهم الخرافية، وباتساق عن شذرات الأخبار المتواترة عن السعى لتقليص الإنتاج الدرامى لتقليص النفقات!. وبمراجعة سريعة لتاريخ الدراما المصرية القريب نكتشف بسهولة أن أعمالها الخالدة كانت تكلفة إنتاجها زهيدة مجتمعة إذا ما قورنت بأعمالٍ تم إنتاجها أخيرا وأوجدت فى الوعى تشوهات بصرية وسمعية ونفسية وسيارات فارهة لبطلها!، وبالتالى فإن إعادة رسم خريطة الدراما المصرية يمكن أن يتم إذا ما تم الانطلاق من ضبط مسارات الصناعة ودعم الإنتاج قليل التكلفة بما يثرى السوق فى ظل السماوات المفتوحة ويعيد تشغيل آلاف العاملين والمبدعين الذين تعطلوا بفعل عشوائية السوق الدرامية وعدم انفصالها عن الاستهداف فى زمن الفوضى الخلاقة الذى يسعى لاقتلاع ما هو أصيل. وحتى يمكن استيعاب حجم الوجع الإنسانى الذى يعانيه الكثيرون، تُنبِت الحقيقة من صلبها مشهداً لا يعنينا كثيرًا اسم بطله الواقعي، قدر ما نستهدف معاينة وجوه أخرى لواقعٍ، يستدعى معالجةً تدعم قوانا الناعمة لتستحيل فاعلة. وفى استهلال المشهد يجلس صاحبنا على وسادة ذكرياته القريبة، يتذكر ساعات نشاطه الفنى التى كانت، ويتذكر معها آمالاً كِبارا كانت تحلق فوق سماء هذه الساعات، يُباشر فيها أداء دوره الفنى كمخرج مساعد، وتطلع للمخرج الكبير الذى يعمل إلى جواره، يمنى نفسه بأن مساحات من جد ستصل به يومًا ما إلى مكانته فى موقعٍ مشابهٍ للأستاذ، كان يغرق فى تفاصيل الفعل الدرامي، تخالط صنعتها الروح وتخبز خلايا البدن لتؤكد لكل صاحب إبداع أنه حيّ، يتملل صاحبنا فى جِلستِه التى طالت، كان قبل أن يطول به الجلوس يستعين عليه بأرشيف يضم علاماتٍ بارزاتٍ فى تاريخ الدراما المصرية شارك فيها صاحبنا، غير أنه مع مرور الوقت وتتابع الغث على الوعى بات طول الجلوس مؤذنًا بأوجاعٍ يختلط فيها ما هو مادى بما هو وجودي. تتحول حالة البوح من حوار داخلى بين صاحبنا وذاته إلى (مونولوج) يُلقيه فى مشهد شهادة على أعتاب عالم إلكترونى بارد فى صفحة (فيس بوك)، حيث تستحيل الصفحة منصة شهادة يُلقيها أحد مبدعى هذا الوطن فى جلسة استماع منصوبة بأمر الضمير الفنى الوطنى الخالص، يقف صاحبنا فى منتصف المشهد شاهدًا، ومن خلفه المئات من أقرانه لا تظهر ملامحهم فى الإضاءة المركزة على صاحبنا، لكنهم خلفه يصطفون مؤازرين ومنتظرين وقت إفادتهم، بينما يرقبهم من ورائهم آلافٌ يمثلون أسرًا تتعلق برقابهم، يُخاطب صاحبنا ضمير العدالة المُعلق برقبة الإدارة والمجسد قاضيا فيقول سنوات ونحن محرومون من عملنا مصدر رزقنا وقوت أولادنا، والأكثر وجعاً أننا محرومون من متعة لا تُضاهيها متعة وهى أن ينبت بين يديك مسلسل. تتصاعد شهادة صاحبنا مع تصاعد أنفاسه اللاهثة (كنت باشتغل فى مسلسل وأحبه زَيّ ابني، شوف بقى لما ربنا يرزقك بمولود بتفرح قد إيه، شوف بتعمل عشانه إيه، وكل ما يكبر شويه كل ما تفرح بيه أكتر وتحس إنك عايز تعمل كل حاجة عشان تشوفه أحسن واحد فى الدنيا كلها،وتفضل تعافر وتتعب وتسهر وتستحمل أسبوع كامل من غير نوم ولا دقيقه عشان ابنك، وتقعد فى وسط الناس تصفق له وتفتخر بيه، ده بالظبط إحساسى باى عمل كنت باشتغل فيه والحمد لله كل الاعمال اللى اشتغلت فيها طلعت الاولى على دفعتها ودفعات قبلها وبعدها). تهيج شجون صاحبنا فى شهادته حين يقول (مش بس اتحرمت من متعة الأبوة لأعمالى لا كمان تخيل لما كنت أسمع إن مسلسل اتباع فى كل المحطات وجاب فلوس كتير للبلد، متعة طبعا إنى أبقى واحد ساعد إن البلد تدخلها فلوس كتير جدًا ومتعة انى كنت باشوف ناس مش مصريين بيتكلموا عن مصر ويشكروا فيها بسبب عمل أنا اشتركت فيه أنا العبد الفقير الى الله كنت باساعد فى إن ملايين تدخل مصر، وسياح ييجوا لمصر، و ناس تحب مصر، وكمان باكسب فلوس أعيش بيها كويس)، عند هذا الحد توقف صاحبنا عن شهادته وترك للضمير الوطنى الإجابة على سؤال (هل نحن بحاجة إلى ترشيد الإنفاق الدرامى أم إلى تقويمه؟). لمزيد من مقالات ◀ عبد الجليل الشرنوبى