أثار قرار وزير المالية د محمد معيط والقاضى باستمرار تثبيت سعر الدولار الجمركى عند 16 جنيها على السلع الضرورية والاستراتيجية والمواد الخام والآلات ومستلزمات الانتاج وقطع الغيار فقط، بينما ستتم معاملة السلع الأخرى (والتى أطلق عليها السلع الترفيهية والاستفزازية!!) بالسعر المعلن للدولار من البنك المركزي، والذى تم تحديده عند 17٫974 جنيه، العديد من الحوارات والنقاشات فى المجتمع ككل وتركزت حول مدى إمكان هذا القرار تحقيق الأهداف المنوطة منه، وهى حماية الصناعة الوطنية والحفاظ على فرص العمل الحالية مع إيجاد فرص عمل جديدة، وبداية لا توجد آلية اقتصادية واحدة تحقق جميع الأهداف المطلوبة، بل تتم عبر سلسة من الإجراءات والسياسات تنسجم وتتسق مع بعضها البعض، بحيث تتحدد أولوياتها والسرعة الواجب العمل بها والمرونة التى تتمتع بها، ضمن إطار مؤسسى كامل ومتكامل تتوافر لديه الشروط لكى يحقق الأهداف المطلوبة، وهو ما لا يحدث فى الاقتصاد المصرى حاليا، حتى فى أدوات السياسة الواحدة مثل السياسة التجارية فنجد تعارضا شديدا بين اهداف التعريفة الجمركية وبين سياسات الدعم سواء للصادرات او للإنتاج محل الواردات او الحواجز غير الجمركية وغيرها، وهى كلها أمور تجعل من الصعوبة بمكان تحقيق الأهداف المطلوبة وينطبق نفس القول على القرار الأخير الخاص بالدولار الجمركى ويقصد به سعر صرف الدولار الذى يطبق عند احتساب الرسوم الجمركية المستحقة على الواردات. وهذا السعر يحسب، منذ قيام الحكومات السابقة بتحرير التعامل بالنقد الأجنبي، على أساس المتوسط الشهرى لسعر الصرف اليومى المرجح والمعلن من البنك المركزي، ويطبق فى أول يوم من الشهر التالى ولمدة شهر، وهذا النظام كان معمولا به لفترة طويلة. اما السعر الاستثنائى الذى كان يطبق عند حساب القيمة الجمركية لبعض السلع الأساسية والضرورية، فقد تم تطبيقه فى أول أكتوبر عام 2003 حيث تم تثبيت سعر الدولار الجمركى عند 535 قرشا على سلع بعينها، إلا أنه لم يستمر العمل به طويلا نظرا لما ترتب عليه من مشكلات يأتى على رأسها تعدد اسعار الصرف وغيرها، الأمر الذى دفع مجلس الوزراء فى جلسته المنعقدة إلى إلغاء العمل به، والاكتفاء بمنح هذه السلع معاملة خاصة تقضى بمنحها خصما قدره 15 % من القيمة الجمركية المستحقة عليها. وظل هذا النظام حتى جاءت قرارات تحرير الصرف الأجنبى فى نوفمبر 2016 وهو ما ترتب عليه العودة للعمل بنظام الدولار الجمركى ولكن على جميع السلع وليس على سلع بعينها . وهنا نلحظ أولا أن القرار يختلف مع توجهات وفلسفة التعريفة الجمركية الأخيرة الصادرة فى سبتمبر 2018 وفقا للقرار الجمهورى رقم 419، والذى عمل على تشجيع صناعة تكنولوجيا المعلومات باعتبارها من الصناعات الواعدة وتشجيع الاستثمار فيها، ولتحقيق هذه الأهداف خفض عددا من فئات التعريفة الجمركية ووصل الى حد الإعفاء للأصناف الداخلة فى هذه الصناعة بالقدر الذى يعمل على رفع كفاءتها لمسايرة التقدم العالمى التقنى فى هذا المجال، بينما جاء القرار الأخير ليضعها ضمن السلع التى تخرج من نطاق الدولار الجمركى وبالتالى لا تحظى بالمعاملة التفضيلية وتأتى خطورة هذه المسألة فى ظل التغييرات فى الأهمية النسبية لعوامل الانتاج، والابتعاد عن المنتجات والعمليات ذات الكثافة فى اليد العاملة غير الماهرة، وفى المواد الأولية والطاقة، نحو منتجات وعمليات كثيفة المعرفة، وبالتالى انتقلت المنافسة من مجال ابتكار منتجات جديدة، كما كان عليه الحال فى القرنين الماضيين، الى القدرة على الدخول فى عمليات تكنولوجية جديدة. ولذلك كان يجب الاستمرار فى استثناء هذا القطاع من القرار وتطبيق السعر المدعوم عليه، اما الهدف الثانى المتعلق بحماية الصناعة الوطنية وهو هدف نتطلع اليه جميعا لان القطاعات الإنتاجية وعلى رأسها الصناعة تعد وبحق محور الانطلاق الرئيسى لأى مجتمع يرغب فى إحداث طفرة تنموية حقيقية، نظرًا للآثار الإيجابية الكثيرة والمتعددة لهذا القطاع وعلاقته التشابكية القوية مع القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخري. علاوة على دوره فى تنمية التجارة الخارجية وتحسين الميزان التجارى بالبلاد، كما أن لديه قدرات هائلة على توفير فرص عمل كثيرة ومتنوعة، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، ناهيك عن دوره فى نقل التكنولوجيا الحديثة وتحقيق الانتشار المكانى والتوازن الإقليمي. وبالتالى تلعب الصناعة دورا مهما وحاسما فى عملية التنمية عموما وليس فقط الاقتصادية، من حيث قدرتها على توفير الاحتياجات الأساسية للسكان وبناء قاعدة إنتاجية قوية تساعد على الانطلاق نحو تحقيق الأهداف التنموية للبلاد. ولكن المشكلة لا تكمن فى التعريفة الجمركية ولكن فى مجمل السياسات الاقتصادية المطبقة والتى تؤدى الى العكس من ذلك كما أن هذا القرار يمكن ان يعرض البلاد للمزيد من الضغوط التضخمية فى ضوء خصوصية الحالة المصرية، التى تتميز بارتفاع المكون الأجنبى فى الإنتاج المحلى والاعتماد الشديد على الواردات فى تلبية الطلب المحلي، اذ ان جانبا كبيرا من الواردات (حوالى 48%) يمثل مدخلات لإنتاج سلع صناعية وقطع غيار للآلات والمعدات، ويعنى نقص المعروض منها عدم تشغيل المصانع بطاقتها وظهور طاقة إنتاجية معطلة. وتشير الإحصاءات الى أن هناك زيادة مستمرة فى عجز الميزان التجارى والذى وصل الى 37.3 مليار دولار خلال عام 2017/2018 مقابل نحو 25 مليار دولار عام 2009/2010 وانخفضت نسبة تغطية الصادرات للواردات السلعية من 49% عام 2009/2010 إلى 41% عام 2017/2018. أى انها تتزايد عاما بعد اخر بحيث أصبح يشكل أحد القيود الاساسية على حركة الاقتصاد المصرى ككل. خاصة أن هذا الميزان يعكس الهيكل الإنتاجى للدولة ومدى تطوره، وهو ما يظهر فى المعاملات السلعية وتركيبة السلع الداخلة فى حركة التجارة المصرية ويرجع السبب فى هذا العجز الى الارتفاع المستمر فى الواردات السلعية، والتى وصلت الى 63.1 مليار دولار. حيث زاد الطلب على السلع الوسيطة والاستثمارية والاستهلاكية ونظرا لأن المجتمع لا يملك جهازا إنتاجيا متنوعا وقادرا على الإحلال محل الواردات، وغير قادر على المنافسة الدولية، بما فى ذلك جودة الإنتاج، وأيضا لايستطيع سد حاجة الطلب المحلى مما يترتب عليه، أما ارتفاع تكلفة الإنتاج، أو انخفاض حجم الإنتاج وتدهور الطاقة الإنتاجية، وبالتالى فإن المسألة تكمن فى ضرورة الإسراع بتبنى سياسة تجارية وجمركية متسقة ومنسجمة مع الأهداف التنموية للبلاد لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى