ظلت فرنسا على مدى التاريخ والسنين، مصدراً للإلهام ومنارة للحقوق والحريات، وغراماً لكل المثقفين مع اختلاف الاتجاهات، كما ظلت مثلاً حياً لحرية النقد والتعبير، ومصدراً لأسس النظم السياسية ومبادئ الدساتير، كما قدمت نموذجاً للحفاظ على حقوق وحريات الآخرين، حيث تنطلق حقوق الناس وحريتهم لتقف عندما تبدأ حقوق وحريات الآخرين، وقدمت لنا الحِكَم والأمثال والنظريات، فى كيفية الحفاظ على النظام العام وعدم المساس أو الإضرار بالحقوق، وتعزيز مبادئ الحريات والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين. وفى أقصى صور للتعبير والنقد وحق الإضراب وهى أعظم الحقوق الدستورية. كان الحادث فى باريس منذ زمن بعيد والى وقت قريب، فاذا أضرب عمال النقل والمواصلات كان الحفاظ على المصالح العامة، ومصالح الجماعة والناس، بالأساس، فيكفى للتعبير عن الغضب، ألا تقف وسائل المواصلات فى إحدى المحطات المخصصة لها، لكنه فى ذات الوقت تأتى وسائل النقل الأخرى بعدها، لتقف فى ذات المحطة التى لم تقف عندها سابقتها فتكون رسالة التعبير والغضب قد وصلت بغير إضرار أو تعطيل وحتى لا تضطرب المصالح العامة وتتعطل مصالح الناس، وكذلك الحال عند إضراب مرفق الكهرباء، للتعبير عن النقد بغير إهدار للمصالح والأموال، ولهذا كانت صور التعبير أو النقد أو الإضراب، مصدراً للاحترام والتقدير لدى الفقهاء والدارسين والسياسيين تعكس ثقافة عالية، ومبادئ راسخة ومثلاً يحتذى فى التعبير عن الحريات واستعمال الحقوق بغير انحراف. لكن الذى جد فى التاريخ، ما حدث أيام السبت من الأسابيع الأربعة الماضية، فى مواجهة سياسة الدولة نحو زيادة الضرائب، وأسعار الوقود، تعبيراً عن النقد والغضب، والإضراب فى الشوارع الرئيسية بباريس والمعالم الرئيسية, برج إيفل وقوس النصر ومتحف اللوفر ومركز بومبيدو، وإشعال الحرائق، وأعمال التخريب، والنهب فى كل مكان تعتبر تلك أحداثاً غير مسبوقة فى تاريخ فرنسا منذ الثورة الفرنسية عام 1789 وحركة الطلاب عام 1968، أثارت الاهتمام والدهشة وفجرت التساؤلات خاصة بعد أن انتقلت المظاهرات الى خارج باريس يوردو تولوز وسيليا، بل وامتدت الى بلجيكا وهولندا ودول أخرى وفى أثناء الاحتفالات بالأعياد إعلاناً عن خريف غضب فى فصل الشتاء حتى إن البعض فسر ذلك بأنها موجة لإشعال الثورات فى منطقة أوروبا وإشارة الى أيدٍ خفية لتذكية الشغب ضد نظام الحكم فى الدولة لممارسته سياسة عشوائية ومتهورة غير مدروسة النتائج. وفى المقابل كان اتجاه الدولة فى مواجهة المظاهرات حدثاً جديداً، فلقد حشدت آلافا من رجال البوليس بلغ عددهم فى شارع الشانزليزيه وحده ثلاثة آلاف فى الأسبوع الأول، وامتد فى الأسبوع الثانى والثالث الى أكثر من خمسين ألفاً، استخدموا أبشع الوسائل فى المواجهة بغير هوادة، متدرجة بها حتى إطلاق النار وأوامر الحبس والاعتقال، وتبدلت الأحوال، بعد أن كان المتظاهرون يعبرون عن غضبهم فى مأمن وتحت حراسة الشرطة مع الحفاظ على النظام، أصبحت المواجهة بطريقة عنيفة لمواجهة ذات الاضطراب والإضراب العشوائى! فانتشرت قوات الأمن فى كل مكان، يمنعون المارة، ويفتشون السيارات، ويغيرون اتجاهاتها، وكأن أمن الحقوق والحريات قد اضطرب فى كل مكان، ولم يهدأ الحال، رغم خطاب رئيس الوزراء للرأى العام بأن هناك تعديلا ناعما فى سياسة الدولة نحو تأجيل زيادة الضرائب وأسعار الوقود!. هذه الصورة التى جدت على قلب العاصمة باريس الأسابيع الماضية، حتى السبت الماضى والتى لم تنته بعد، أثارت الدهشة والتعليقات والتساؤلات، وهددت الحريات سواء من جانب المتظاهرين أو فى مواجهتهم، وفجرت الأحاديث والتحليلات، وهزت القيم الراسخة على مدى التاريخ، فى بلاد الحريات والثقافة والنور التى ظلت دوماً مصدراً للإلهام، فاحتلت الكتابات والتعليقات من جانب الكتاب فى مصر والعالم.. وفى فرنسا التى اعترضت على تدخل أمريكا فى شئونها ولو بالتعليق أو لوماً بالتضخم فى الأرقام والحسابات المعلنة، بعد أن اتسمت المظاهرات بالعنف والتخريب، ولم تقف عند حد التعبير عن النقد أو الغضب وحماية النظام العام وحقوق الآخرين، كما هددت ثقافة الحريات، واتسمت بالانفعالات والتخريب، وأنذرت بخريف من الغضب فى فصل الشتاء قد يكشف عن أيدٍ خفية تذكى الانفلات المقصود، الأمر الذى يتطلب مواجهة ونقاشاً جاداً فى مواجهة مطالب الناس فى سبت أسود لا يكفى له القوة والقانون، ولا يحقق مصلحة أحد، حتى لا تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، وتضيع كل الآمال والطموحات. لمزيد من مقالات ◀ د. شوقى السيد