كان د. جابر نصار، الرئيس السابق لجامعة القاهرة، قد اتخذ قرارا بمنع المنتقبات من التدريس للطلاب، وقد كتبت آنذاك واصفا القرار بالشجاعة والاستنارة، متمنيا على الدولة المصرية بكل أجهزتها ومؤسساتها أن تسير فى الطريق نفسه، بغية استعادة الروح المصرية من قبضة ذلك اللباس الموحش بكل ما يرمز إليه من اغتراب عن الفطرة الإنسانية. وقد طال انتظارى لأى تحرك على هذا الصعيد دون طائل، حتى سمعت بمشروع قانون اقترحته السيدة غادة عجمى النائبة البرلمانية فأسعدنى أن يكون مصدره امرأة، وأن يخرج من ثنايا المجلس الموقر، غير أن سعادتى تلك أزهقها قيام النائبة بسحب مقترحها لأنه أثار، حسبما قالت للصحف، انقساما لم تكن تتوقعه، وذلك دون أى ضغوط سياسية أو أمنية، وهو تطور سلبى يثير لدينا تحفظات عدة تتعلق بالحكم الشرعى والمصلحة الأمنية والبيئة التاريخية، وأيضا بمفهوم الفضيلة نفسه. اولها يتعلق بالحكم الشرعى لهذا اللباس الذى ينفى الشخصية الإنسانية القابعة خلفه، ومن ثم لا يمكن أن يكون مقصودا لأى دين إنساني، ناهيك عن إسلامنا الحنيف الذى يحترم الفرد ويخاطب ضميره الحر. والأمر المؤكد لدينا هو عدم وجود نص قرآنى أو حديث نبوى يفرض هذا اللباس، وأن ما تحدثت عنه آيات القرآن الكريم «وليضربن بخمرهن على جيوبهن» وعلمنا إياه رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم تطبيقه إنما يتعلق ب «الحجاب» الذى تختلف أشكاله لدى من ترتدينه اليوم بين ضيق واتساع، أناقة وبساطة، ولكن يتفق الجميع على كونه يكشف بالضرورة عن الوجه والكفين، وعلة ذلك مفهومة وهى أن تُعرف الشخصية الإنسانية التى تسير بيننا وتتحرك فى مؤسساتنا ويدخل الجميع معها فى علاقات تبادل وتعاقد وتعاون وحوار، وغير ذلك مما تقتضيه طبيعة الإنسان ككائن اجتماعى متمدين، وجميعها علاقات يعوقها هذا اللباس الذى يحيل صاحبته إلى كائن غامض وشخصية مثيرة للقلق والرهبة فى النفوس حتى إننى رأيت أطفالا صغارا يبكون عند رؤية منتقبة؛ إذ تبدو لديهم للوهلة الأولى مثل كائن سحرى، ما يؤكد منافاته للطبيعة البشرية. والثانى يتعلق بالأمن، إذ يبدو الخطر جليا فى أن يرتدى النقاب رجل ليخفى شخصيته عمن يتعامل معهم، كى يحقق مصلحة غير مشروعة، وليس هذا تصورا نظريا ولا أمرا افتراضيا فقد وقعت حوادث عدة من هذا القبيل نشرت الصحف بعضها، أحدها كان لرجل يرغب فى التلصص على النساء باعتباره إحداهن، ما يعنى أن الضرر قد يحيق بالمنتقبات أنفسهن. ولعله بديهيا أن الشخص رجلا أو امرأة الذى يسير فى الشارع ويدخل المؤسسات لابد أن يكون معروفا كى يمكن مساءلته عن أفعاله، وإلا أصبح مثل من يتحرك بيننا دون بطاقة رقم قومي، أو مثل سيارة تسير فى شوارعنا دون أرقام مرورية نعرف منها صاحبها ونسائله عما يقع فيه من مخالفات أو يرتكبه من جرائم، فتلك قضية عقلية أقرب إلى البداهة ولا يصح الجدال بشأنها إلا من عقل سقيم وملتو. والثالث يتعلق بالبيئة التاريخية، إذ لا يمكن فهم أى تشريع إلا فى سياق زمانه وبيئته، ولعل وظيفة الزى فى المجتمع المتمدين، تتمثل فى تحقيق التوازن بين طرفى معادلة الاحترام الحضور، وفيما يخص المرأة يفترض من لباسها أن يضمن لها الحضور دون ابتذال، والاحترام دون اختفاء، ومن ثم ينبع الاحتشام كقيمة وسطية بين التعرى المبتذل الذى يرفضه الدين الصحيح والذوق السليم معا، وبين الاختباء الكامل الذى يتغوَّل على شخصية المرأة إلى درجة الإفناء، وهو ما يقوم به النقاب يقينا، كونه يمت بالصلة إلى عالم الصحراء وروح القبيلة التى لا تعتد بقيمة الذات الفردية، بل غالبا ما تدمج أعضاءها فى شخص كبيرها، وليس إلى عالم الحضارة أو روح المدينة، حيث الاعتبار أساسا بقيمة تلك الذات وتأثيرها فى عالمها. هذا الخلل هو ما سعى الحجاب لإصلاحه عندما غطى الجسد تأكيدا للاحترام مع كشف الوجهين تأكيدا للحضور. ورغم تباين أشكاله يبقى جميعها مقبولا مادام مكن المرأة من ممارسة حياتها الطبيعية، تعليما وعملا، وترفيها. ومن ثم ينبع السؤال: إذا كان الإسلام قد اقتصر على فرض الحجاب فى بيئة بدائية، حيث كانت النساء يخرجن لقضاء حاجتهن ببطن الصحراء فى ليل معتم، لا حضور فيه لقوات شرطة أو أجهزة أمنية، ومن ثم كانت القدرة على ارتكاب الجريمة والهروب من الجماعة إلى الخلاء بلا قيود، فكيف يفرض الناس على أنفسهم هذا النقاب فى ظل بيئة متمدينة، يرتبط كل فرد فيها بالدولة، ولا يستطيع قضاء مصلحته إلا عبر أجهزتها، التى صارت تميزه عن غيره بمجموعة أوراق، صارت تختزل فى بطاقة تحمل معالمه وموقعه وتاريخ حياته، وتستطيع السلطات من خلالها أن تغلق أمامه كل مسالك الهروب من العقاب؟. المفترض هنا أن يتحرك التشريع فى اتجاه ما هو أبسط وأيسر وليس ما هو أعقد وأخشن. أما الرابع فيتعلق بمفهوم الفضيلة، إذ ربما يرى أولئك النسوة اللاتى ترتدين النقاب أنه يزيدهن فضيلة، مؤسسات تصورهن هذا على قاعدة أن المزيد من كل فضيلة هو بالضرورة ذروة الفضائل. ولعل هذا هو منطق جل مشايخ السلفية أو بعض مشايخ الأزهر، عندما يعتبرونه فضيلة مندوبة وإن لم يكن واجبا مفروضا، متجاهلين كالعادة حقيقة أن كثيرا من الفضائل تتحول إلى رذائل بفعل التطرف فيها، كالمبالغة فى الشجاعة إلى حد التهور، والمبالغة فى الكرم إلى حد الإسراف، والمبالغة فى التدين إلى حد التعصب، ومن ثم يتعين على هؤلاء جميعا أن يراجعوا مواقفهم، كما يتعين على البرلمان أن يسرع فى إقرار هذا القانون انتصارا للقيم الذوقية والجمالية والإنسانية، وتحقيقا للمصلحة الأمنية، خصوصا أن سجالا يدور فى دول أوروبية عديدة حول النقاب، وأن بعضها جرَّمه بالفعل، وبعضها الآخر لا يزال يبحث فى الأمر متحرجا من الاتهام بالعنصرية، فلتأتى المبادرة إذن من مصر، كهدية إلى عالم منقسم، تكريسا لثقافة العيش الإنسانى المشترك. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم