يثار فى الآونة الحالية النقاش حول مقترح وزارة المالية والذى وافق عليه مجلس الوزراء الخاص بتعديل طريقة المحاسبة الضريبية لعوائد أذون وسندات الخزانة بحيث تفصل فى وعاء مستقل عن باقى الإيرادات الأخرى، وتطبيق معادلة لحساب تكلفة هذا الايراد وخصمها من التكاليف الاجمالية للبنك، وذلك مع الإبقاء على سعر الضريبة كما هو، وهو ما أثار حفيظة البنوك والمتعاملين بالأسواق المالية، وكالعادة استغلوا الآلة الإعلامية الكبيرة التى يسيطرون عليها بحكم كونهم الرعاة الاساسيين للعديد من البرامج الحوارية التليفزيونية والصفحات المتخصصة فى معظم الصحف والمجلات المصرية، وانهالوا على الاقتراح بأفكار مغلوطة بغية الباس الحق ثوب الباطل، وساعدهم على ذلك عدم الدراية المتخصصة لدى معظم معدى ومقدمى هذه البرامج الأمر الذى أحدث بلبلة شديدة واختلط الحابل بالنابل وتتركز الانتقادات فى كونه سيؤدى الى انسحاب البنوك من الاستثمار فى أوراق الدين العام، وثانيا انه سيدفع بالبنوك الى تخفيض الفائدة على الودائع لتقليل حجم التكاليف التى ستتحملها وأخيرا وليس آخرا زيادة عبء الدين العام على الموازنة العامة للدولة وقد بدأ العمل بهذه السياسة حينما قامت الحكومة بتحرير أسعار الفائدة، فى الثالث من يناير 1991، اعتمادا على اصدارات الأذون على الخزانة، التى يتم طرحها ويتحدد معدل العائد عليها، من خلال مزادات علنية تعقد اسبوعيا، وكان ذلك بمثابة تدشين لمرحلة جديدة، تستعين فيها السياسة المالية فى تمويل عجز الموازنة بمدخرات الافراد والمؤسسات المالية وغير المالية وبالتكلفة التى تحددها قوى السوق، ومن ثم التوقف عن التمويل بالاقتراض المباشر من البنك المركزي، كما اتاح ذلك للبنك المركزى امكانية تنفيذ سياسته النقدية الرامية لامتصاص فائض السيولة لتعقيم أثرها التضخمي، وكذلك منح الجهاز المصرفى المزيد من الحرية فى التعامل، سواء بالنقد المحلى أو بالعملات الاجنبية. وبدأت هذه السياسة بإصدار اذون على الخزانة لمدة 91 يوما فى يناير 1991 ثم طرحت اذون الخزانة لمدة 182 يوما فى سبتمبر من نفس العام ثم اذون لمدة 364 يوما فى مارس 1992. وتطور حجم هذه الاذون من 4 مليارات جنيه عام 1991 الى 1316 مليار جنيه فى نهاية أكتوبر الماضى وبمقتضى هذه السياسة أصبح سعر الفائدة على الاذون يستخدم كمؤشر للبنك المركزى لتحديد أسعار الخصم، وكذلك البنوك لتحديد اسعار الفائدة الخاصة بها. وصدر القانون رقم 17 لسنة 1991 بإعفاء اذون الخزانة الصادرة منذ اول يناير وعوائدها من كل أنواع الضرائب والرسوم فيما عدا ضريبة الايلولة وقد صدرت عدة تعديلات قانونية كان اهمها القانون 114 لسنة 2008 والذى نص فى المادة التاسعة منه على إلغاء إعفاء أذون الخزانة من الضرائب وهنا نلحظ انه وعلى الرغم من فرض ضرائب على عائدات هذه الاذون الا ان استثمارات البنوك فيها قد ارتفع من 76 مليار جنيه (بنسبة 63٫9% من الإجمالي) عام 2007 الى 100 مليار (بنسبة 68٫5%) عام 2008 ثم الى 214 مليارا عام 2009 (بنسبة 89٫5%) وهو ما يدل دلالة قاطعة على ان الضرائب لم تؤد الى الانسحاب من الاستثمار فى هذه الأداة على عكس ما يدعيه البعض حاليا. يضاف الى ما سبق ما يشهده السوق حاليا من تراجع فى نصيب القطاع المصرفى من الاستثمار فى أذون الخزانة من 79% يونيو 2015 الى 68% أكتوبر 2018 مع ملاحظة ان معظم الزيادة التى حدثت تعود الى استثمارات بنك الاستثمار القومى حيث وصلت حصته الى 13% مقابل تراجع نصيب البنوك العامة والخاصة ولذلك انخفض نصيب الأوراق المالية من إجمالى أصول القطاع المصرفى من 45٫1% بنهاية يونيو عام 2016 الى 33٫1% بنهاية سبتمبر عام 2018 وأدت هذه السياسة إلى عدم قيام الجهاز المصرفى بدوره الأساسى المتعلق بجذب المدخرات والودائع واستخدامها فى تمويل الاستثمارات، بل على العكس فقد توسع فى الاستثمار فى هذه الأوراق على حساب تمويل التنمية واقتصرت مساهمته فى رءوس اموال الشركات على مبالغ ضئيلة ولم تنمُ القروض والتسهيلات الائتمانية بنفس الدرجة، الامر الذى أحدث خللا لدى الجهاز المصرفى أثر على نشاطه الإقراضى فوصلت نسبة القروض للودائع بالعملات المحلية والأجنبية الى 45٫9%، حيث تصل هذه النسبة بالعملة المحلية الى 39% وترتفع بالنسبة للعملات الأجنبية الى 68٫4% وهو ما ادى بالبعض الى الحديث عن المزاحمة اذ أدت هذه السياسة الى تحفيز أصحاب الثروات على الاستثمار فى هذه الأصول عديمة المخاطر وذات الفائدة المرتفعة، وبالتالى اثرت بالسلب على الاستثمار المحلى هذا فضلا عن تأثيرها على الائتمان المقدم للقطاع الخاص ومن ثم الحد من قدرات الجهاز المصرفى على توفير التمويل اللازم لهذا القطاع. ولذلك ارتفعت أرباح البنوك من هذه الاستثمارات بصورة كبيرة مقارنة بأرباحها عن النشاط المصرفى الاعتيادي. وتشير الإحصاءات الى ان نسبة السيولة الفعلية بالعملة المحلية لدى الجهاز المصرفى تصل الى 40٫5% مقابل نسبة قانونية 20% وكذلك بلغت هذه النسبة للعملات الأجنبية 67٫5% مقابل نسبة مقررة قدرها 25 %. وهذا ان دل على شيء فهو يدل على ان هناك فائض سيولة لدى الجهاز المصرفى لا يستطيع استخدامه الاستخدام الأمثل مما يزيد من عبء تكلفة الاموال عليه. وقد ادى كبر حجم فائض السيولة لدى الجهاز المصرفى الى قيام البنك المركزى بتعزيز آلية ربط الودائع للبنوك لديه، والتى بدأ العمل بها اعتبارا من 17 سبتمبر 2012 بمبلغ لم يتجاوز 18 مليار جنيه آنذاك، الا ان متوسط هذه الأموال قد ارتفع من 442 ميار جنيه فى نهاية يونيو 2017 الى 711 مليار جنيه فى منتصف اغسطس 2018 وتراوحت آجال تلك العمليات ما بين 28 يوما و210 أيام ناهيك على ان قيام البنك المركزى بامتصاص السيولة الإضافية بالأسواق والمحافظة على معدلات التضخم ادى الى سحب هذه الأموال بأسعار فائدة تزيد بنحو 4% عما هو سائد بالأسواق، الامر الذى ترتب عليه خسائر كبيرة وصلت الى 28 مليار جنيه، وهو ما دفع وزارة المالية للتدخل لمساندة البنك المركزى عبر تدعيم القاعدة الرأسمالية له بنحو 6 مليارات جنيه، وكذلك تجديد كل سندات الخزانة الصادرة لمصلحة البنك المركزى بسعر موحد بلغ 16% وهو ما ألقى بمزيد من العبء على الموازنة بلغ 57 مليار جنيه كزيادة فى الفوائد عما كان مخططا فى الموازنة مما سبق يتضح لنا ان القرار المشار اليه هو إجراء سليم حيث يهدف الى تصحيح تشوهات قائمة بالفعل ونتمنى ألا تتراجع الحكومة عنه تحت وطأة هذه الحملة الشعواء لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى