الناس لا يولدون منتجين، لكنهم يولدون مستهلكين!. وإذا أرادت أمة أن تتقدم، فيجب أن تعلم أبناءها الفكر والثقافة، لكى ينجوا بعقولهم وأرواحهم من الإرهاب والتطرف والخوف من الحياة، وتعلمهم الاقتصاد والإنتاج، لكى يكفوا أحوالهم، ويبنوا أسواقهم الصحيحة، ويعملوا ويعيشوا أصحاء ومتطورين. وعملية الإنتاج عملية صعبة، تحتاج إلى التنظيم والتعليم والعمل المستمر، وعدو الإنتاج هو أن تلجأ الحكومات إلى إرضاء الجمهور، بتشجيعه على الاستهلاك المفرط، وحتى نكون واقعيين، فإن الاستهلاك ضرورى لاستمرار الحياة، ونمو الأسواق، لكنه قد يتحول إلى حالة مرضية قاسية، تضر بالمجتمعات والناس، إذا كانت الحكومات والمجتمعات ترعاها، عبر أساليب عديدة، أهمها وأخطرها آفة الدعم السلعى، بذريعة خفض الأسعار بلا مبرر. وبالتالى عدم الحكم الدقيق على السوق، لأن السعر أداة لحساب التكلفة، ومعرفة الإمكانيات ماذا نستهلك، وبأساليب حديثة، لا تضر بالأسواق، ولا تفتح شهيتها للاستيراد المخيف المضر لعملية الإنتاج فى البلاد. وإذا استمرت مصر بهذه الحالة، فإنها تلغى الأداة السعرية فى تقدير قيمة السلعة أو الخدمة، وإذا واجهت نقصا سلعيا صعبا، فإنها تلجأ للاستيراد على حساب الإنتاج، فتضر بالمنتجين، لأن الاستيراد بمعناه البسيط هو تشجيع المنتج الأجنبى على حساب المنتجين المحليين الذين يعملون، ويشغلون أبناءنا. وبلدنا الآن، وهو يصحح الاختلال الذى أصاب كيانه السياسى والاقتصادى، فى حاجة إلى إعادة تنظيم الأسواق، ودراسة حالة كل سلعة، والاهتمام بإنتاجها بأقل الأسعار، مع عدم الهروب للاستيراد بأى شكل من الأشكال. وقد لجأت الحكومة إلى تنظيم إنتاج وتصدير السلع، سواء زراعية أم صناعية، بإنشاء مجالس تصديرية، وألغت المجالس السلعية المختلفة، وقد كانت تهدف إلى جمع (المنتجين والمصدرين) معا فى بوتقة واحدة، لاستفادة المسئولين الحكوميين من أفكار ورؤى المصدرين المتعلقة بالتصدير والاستيراد، وتغيير شكل المجالس السلعية إلى المجالس التصديرية، وكان هذا خطأ، ثم حدث خطأ آخر بتشكيل مجالس أخرى لصغار المصدرين، فحدث تضارب شديد فى الإدارة الحكومية للتخطيط فى إنتاج السلع بين وزارات: الزراعة والصناعة والتجارة والتموين. والأمراض التى اكتنفت الأسواق فى الفترة الأخيرة، الخاصة بسلع الأرز والبطاطس والطماطم، نتجت عن غياب التخطيط السلعى، وعدم وجود جهات تجمع بين المنتجين والمصدرين (كبارا أو صغارا)، يضع تخطيطا مثاليا لكل سلعة، حتى نحافظ على التجارة الداخلية، ونصنع أسواقا للسلع المصرية فى الخارج. ووجود المجالس السلعية هو الضمانة للجميع، بحيث تقترب الأسواق أكثر من العدالة والتوازن، وتمنع الاختناقات العفوية أو المقصودة، بفرض شروط غير عادلة، وهذه المجالس ستحدث فى نهاية الأمر استقرارا دائما، وتجعل الأسعار منطقية، ومناسبة، مادامت جميع الأنشطة تسير فى سياقها الطبيعى. وحتى تنجح هذه المجالس السلعية الجديدة، يجب ألا تكون مرتبطة بوزارة واحدة، ولكن بكل الوزارات الإنتاجية والخدمية، على أن تكون مستقلة وقوية وقادرة، وتخطط للإنتاج والاستهلاك والتصدير لكل سلعة على حدة، وتجسد شراكات مبتكرة بين القطاعين العام والخاص، لتحقيق النمو، وخفض أسعار الإنتاج بتكنولوجيا عالية، ومتطورة، قادرة على المنافسة فى الأسواق الداخلية والخارجية، وعلى أن تكون لهذه المجالس آلية لتحسين الإنتاجية، ودفع عملية النمو، خاصة فى قطاعى الزراعة والأغذية، ويتم الترويج على نطاق واسع لهذه المجالس، وستكون أداة لتحقيق التنمية المستدامة، فى حالة ظهور مجالس سلعية لكل سلعة، بما فيها القطن المصرى. وسوف تعود مصر منتجا كبيرا، بالحفاظ على المميزات النسبية لكل سلعة، فعدم التخطيط السلعى جعل مصر تلجأ هذا العام، إلى استيراد الأرز، فى حين أن مصر منتج متميز لهذه السلعة، ويمكن إحداث التوازن فى إنتاجها بمعرفة وتقدير قيمة المياه المنصرفة للأرز، فتتحدد القيمة، ونعرف كم يتكلف الأرز المصرى المتميز، ليكفى الاحتياجات المحلية؟. وإذا تم التخطيط للإنتاج السلعى، فلن تلجأ مصر إلى استيراد الدواجن، لأنها منتج كبير، وقد تلجأ إلى تحسين نوعية الإنتاج، باستيراد أمصال وتدريب العمالة، وتطعيم الإنتاج، وخفض تكلفته، وبذلك لن تستورد دجاجة واحدة من الخارج، وستدعم المنتجين فى الأسواق الخارجية. إنتاج الدواجن وإنتاج الأرز سيحمى مصر المنتجة، ولن يهرب الفلاح من الأرض، ودون زراعة الأرز، خاصة الصيفى، سيهجر الفلاح الأرض، ويبحث عن مهنة أخرى توفر له عيشة كريمة له ولأسرته. والسياسات المتضاربة تؤدى إلى انخفاض الإنتاج، واللجوء إلى الاستيراد، وهذا يؤثر على مجمل الإنتاج القومى، خاصة فى السلع الغذائية التى فى الإمكان أن ينجح المنتج المصرى فى توفيرها للأسواق المحلية، وللتصدير الخارجى. وفى سلع مثل القطن والأرز والدواجن توجد استثمارات كافية، وتتمتع بميزة نسبية فى الإنتاج المحلى، فمصر تحتل المركزين الأول والثانى فى وفرة الإنتاج وجودته بالنسبة للأرز، ولنا فى إنتاج الأرز تاريخ عريق، مثل القطن المصرى تماما، وعندما نلجأ للاستيراد هذا العام، فإننا نحزن، لما آل إليه أمر هذه السلعة الحيوية. ولا نمانع من تنظيم الإنتاج، وتوفير المياه، وخفض المساحات فى ظل تغيير السياسات الزراعية، لكننا فى حال تنظيم كل سلعة، بتخطيط منظم، تشترك فيه كل الوزارات والمنتجين والمصدرين والخبراء، سنتخلص من آفة التضارب فى المصالح، وسنحمى الإنتاج المحلى، وسنطور إنتاج مصر بانتظام، فى ظل آليات وطرق حديثة للعمل والتخطيط، بتعزيز الأطر المؤسسية والتنظيمية السليمة، وبنظام شامل لحوكمة (الشركات والأراضي)، وبعملية اختيار شفافة، وبوضع ميزانيات لاختيار شراكات بين القطاعين العام والخاص، وبالتقاسم العادل للمخاطر. وهى جميعا تؤدى إلى زيادة الإنتاج، ومنع الاستيراد، وتقضى على البطالة، وترفع الدخل القومى. وتحقيقا لهذا المطلب الذى أراه ضروريا لمستقبل مصر، سوف أختار مجموعة سلعية متميزة، تملك مصر بها ميزة نسبية، أقدمها لقارئى من الأسبوع القادم، وسأبدأ بمستقبل الأرز، ثم القطن المصرى. لمزيد من مقالات أسامة سرايا