هى فقط بضع دقائق ومئات الأمتار فى مجرى نهر النيل بين قريتى بشتامى وكوم شريك، بدائرة مركز الشهداء، بمحافظة المنوفية، ليجد 22 مواطنا من أهالى القرية الأولى يوم الأحد الماضى أن عليهم سداد فاتورة إهمال وتسيب أجهزة المحافظة فتطوع 5 منهم بسداد حياتهم نيابة عن بقية ركاب المركب المتهالك الذى حددت له رخصة ابحاره 8 ركاب فقط وليس 22 راكبا ليغرق فى قاع النهر بعد أن غمرته المياه من كل جانب بسبب حمولته الزائدة. لم تكن حياة 5 من الشباب - بينهم فتاتان ولا يتجاوز سن 4 منهم 18 عاما بينما ينفرد خامسهم بسن 40 عاما - تمثل قيمة الفاتورة نيابة عن ال22 راكبا فقط بل نيابة عن مئات المواطنين الذين لا يجدون وسيلة لانتقالهم إلى الجانبين صباح كل يوم من الساعة 5 فجرا ليتسلموا عملهم فى المزارع حتى المساء يوميا مقابل 80 جنيها ويعودون إلى منازلهم ليبدأوا مخاطرتهم الجديدة فجر اليوم التالي!. وعلى الرغم من التحذيرات العديدة من وقوع حادث غرق المعديات على مجرى النيل الرابط بين محافظتى المنوفية والبحيرة وتكرار مطالبة رئاسة مجلس الوزراء وهيئة الطرق والكبارى بالموافقة على إنشاء كوبرى يربط بين المحافظتين فى تلك المنطقة إلا أن لجانا من الهيئة رفضت إنشاء الكوبرى بسبب ضخامة تكاليفه بعد أن أجرت معاينات عدة للموقع!. يبدو أن هذه مطالبات الأهالى لم تصل إلى الرئيس السيسى الذى اعتاد مسئولو الأجهزة المختلفة انتظار توجيهاته ليتحركوا دون أن تدفعهم مسئوليتهم عن حياة المواطنين وخدمتهم وحدها إلى أى إنجاز لرعاية وخدمة المواطن على الرغم من أن تحقيق هذه الخدمات لا تتعدى مجرد قرار من رئيس أى وحدة محلية أو قرار من المحافظ فى حالاتها القصوى وليس قرارا جمهوريا!. ووفقا لما اعتادت عليه وزارة التضامن الاجتماعي، من التحرك بعد وقوع أى كارثة وليس قبلها - وفقا لمبدأ التضامن الوزارى الذى يجمعها بغيرها من الوزارات والأجهزة الحكومية - فقد أصدرت بيانا تؤكد فيه أن وزيرتها وجهت مديرية التضامن الاجتماعى بالمنوفية فور وقوع الحادث بسرعة التحرك والتواجد الفورى لفرق الإغاثة إلى موقع الحادث وتكثيف الجهود نحو مساعدة الأهالي، وتقديم التعازى لأسر المتوفين، وتمنيات الشفاء للمصابين وقررت صرف اعانات عاجلة للأسر, تتجاوز 10 آلاف جنيه للمتوفى و5 آلاف للمصاب, غير أن البيان عاد ليؤكد أن صرف هذه المساعدات سيتم فور استكمال هذه الأسر المستندات الخاصة بالصرف، تطبيقا للقرارات الوزارية.. والخطوة الأخيرة هذه جاءت اتساقا مع الروتين الحكومى المعتاد.. بينما اكتفى المحافظ بالانتقال إلى المستشفى لمتابعة إجراءات استخراج شهادات الوفاة وتصاريح الدفن!. حتى هذه اللحظة لم أجد مبررا واحدا لحالة الصدمة التى فوجيء بها مواطن، المنوفية نتيجة الحادث الذى أنهى حياة 5 من شباب المحافظة وإصابة 18 بينهم 3 فى العناية المركزة.. فمن سكن قاع النيل مجرد فئة مهمشة من المواطنين الذين ليست لهم أنياب أو حتى أظافر... مواطنون محدودو الدخل أو معدوموه... يقاتلون من أجل لقمة عيش... يصارعون الفقر غير أنهم فى النهاية يستسلمون له.. وباختصار هم أبناء البطة السوداء الذين أبدلوا مواقعهم من قاع المجتمع إلى قاع النيل!. الشيء الوحيد المؤكد أنه لم تتح لأى منهم أى فرصة للاختيار سواء فى حياته أو حتى لحظة موته... فالفقر لم يكن رغبتهم... وقسوة الحياة كانت مفروضة عليهم.. والعيش على هامش الحياة لم يكن اختيارهم... حتى لحظة الموت غرقا كانت مصيرهم الذى فرضه عليهم تآمر الإهمال والتسيب واللامبالاة!. دون حذف أو اختصار فإن كل شيء يتكرر بذات الوتيرة ففى كل يوم تغرق عبارة فى مياهنا.. يقع حادث مميت ولكن بشكل مغاير.. فى المواصلات.. فى الصحة إذ يغادر معظمهم الحياة لأنهم لا يمتلكون ثمن أو حق العلاج بعد أن تفترس البلهارسيا أكبادهم وتنفرد خلايا السرطان ببقاياها على الرغم من مشروع السيسى الإنساني, 100 مليون صحة.. وفى التعليم ينحشر أبناء معظمهم وسط 70 أو 80 تلميذا فى فصول فترة ثالثة بمدرسة, لاتمتلك من مقومات التعليم سوى لافتة على بابها تحمل اسم الوزارة الذى يصر وزيرها على مشروع التابلت على الرغم من افتقاد مدارسها للكثير, إذ أنهم لايمتلكون ترف التعليم الخاص..تختنق صدورهم بالتلوث.. يخوضون فى مياه الصرف الصحى ويبحثون عن مواقع مأواهم وسط أكوام القمامة لأنهم لايملكون تكاليف السكن فى شوارع تخترقها مواكب المسئولين على الرغم من مجهود رئيس الدولة لانتشالهم من العشوائيات.. فكل مايقدم لهم من خدمات مدموغ بالإهمال واللامبالاة! .ولكل هذه الأسباب أو لبعضها كان لابد أن ينتقل هؤلاء من قاع المجتمع إلى قاع النيل , بعد أن فقدوا قيمتهم وأمانهم وآمالهم وطحنهم المجتمع بكل قسوة قبل أن تبتلع مياه النيل أجسادهم!. لمزيد من مقالات عبد العظيم درويش