فى الوقت الذى بدا فيه الزحف البشرى السورى يتوارى بعض الشيء عن الذاكرة رأينا زحفا بشريا آخر يتحرك من دول فقيرة فى الشمال اللاتينى الأمريكى إلى حدود الولاياتالمتحدةالأمريكية مع المكسيك. تكون الزحفان من رجال ونساء وأطفال وشيوخ وشباب ومرضى وأصحاء. وكان السير على الأقدام وسيلتهم فى الترحال. فى المرة الأولي، كان الزحف هربا من الحرب الأهلية وما جلبته على سوريا من مآس، عبر اليابس والبحار. وفى الثانية كان بسبب الفقر والعنف الإجرامى فى البلاد، عبر اليابس والأنهار. فى الاثنتين مات من مات وعاش من عاش ولكن استمر الاثنان عاملين محركين لمعارك انتخابية وتغيرات سياسية فى بلدان الشمال. ظاهرة جديدة على البشرية فى عصر العولمة وعالم القرية الكونية والفوارق الاجتماعية الهائلة وغير المسبوقة فى تاريخ البشرية. وكذلك فى عصر الآمال الموعودة ولكن غير المتحققة. وبالرغم من التشابه فى الظروف العامة بين الزحفين، فإننا لاحظنا مواقف متباينة من قيادات وكذلك من تيارات سياسية أثرت وتأثرت من هذه الطوابير الزاحفة. ولكن، وهو المهم، عرفنا من التحركات السياسية التى أوجدتها هذه الطوابير قدر العنصرية التى لا تزال تتجذر فى دول العالم الشمالي، بالرغم من كل التقدم، أو ادعاء التقدم، الذى تدعيه وتعيش رافعة راياته. ولننظر مثلا إلى الفارق بين موقف أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية وبين موقف دونالد ترامب رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية. ماذا فعلت الأولى وكيف تصرف الثاني. ونحلل عناصر ذلك التحرك الزاحف من الجنوب الأمريكى اللاتينى إلى حدود الولاياتالمتحدةالأمريكية. فإذا وقفنا أمام موقفى كل من أنجيلا ميركل ودونالد ترامب فسوف نجدهما متناقضين تمام التناقض. فتحت أنجيلا ميركل بلادها أمام الزحف السوري، بالرغم من كل المخاوف السياسية الداخلية التى أحاطت بها والانتقادات التى وجهتها لها عناصر اليمين الشعبوى الجديد. كذلك بالرغم من المخاوف العامة التى اشارت إلى أن هذه الحشود، والتى لم تكن كلها سورية، قد تتضمن تسلل عناصر إرهابية. وكان ذلك صحيحا، حيث إن هؤلاء الزاحفين، مع أولادهم، لم يمتلكوا جميعا أوراقا ثبوتية، سواء حددت جنسيتهم او أعمارهم أو حتى علاقة زواجهم أو أبوتهم وأمومتهم. تحملت المستشارة كل ذلك وتمسكت بدستور بلادها الذى وضع بعد الحرب العالمية الثانية ونص على ضرورة حماية الدولة لكرامة الإنسان. تحملت كل ذلك فى وقت كانت تعلم فيه أنها تضحى بقيادتها للحزب الديمقراطى المسيحى وهو ما سيقود إلى أن تترك منصب المستشارية الألمانية. أما إذا تحولنا بنظرنا إلى البيت الأبيض فى الولاياتالمتحدةالأمريكية فسوف نرى نوعا آخر من السياسة ومن التصرفات أو الأصح موقفا آخر من السياسيين. أول ما سيلفت نظرنا تلك النظرة العنصرية التى تتركز فى ساكن البيت الأبيض نحو كل من هو غير أبيض البشرة ملون العينين تمتد جذوره إلى الشمال الغربى الأوروبي. يعتبر الرئيس ترامب هؤلاء القادمين من هذا الشمال الغربى الأوروبى هم أصحاب الأرض الأمريكية الذين يتم غزوهم من غير الجنس الأبيض. وهو أمر متداول لدى هؤلاء الأمريكيين المتعصبين الذين نصادفهم أحيانا فى زياراتنا لبلادهم. فهم لا يتصورون، وترامب واحد منهم، أن الأغلبية البيضاء ستستمر تسيطر سياسيا على البلاد إذا استمرت الهجرة غير البيضاء إليها، خاصة أن هؤلاء المهاجرين كثيرو الإنجاب. وهم يرجحون فقدانهم للأغلبية خلال الفترة من 2030 إلى 2050 على أكثر تقدير. ومن هنا يمكن فهم أن إحدى مشكلات الرئيس ترامب الأساسية تتمركز حول السنوات الثمانى التى قضاها باراك أوباما رئيسا للبيت الأبيض الأمريكي. فترامب يحمل أوباما مسئولية كل الإجراءات التى اتخذت من كل الإدارات الأمريكية السابقة عليه والتى يعارضها ويسعى لتغييرها. مثلا دائما ما يردد ترامب أن أوباما سمح بقبول مليونى مهاجر غير شرعى بينما لا يذكر العدد الذى تمت الموافقة عليه فى ولاية جورج بوش الابن وقبله كلينتون وجورج بوش الاب وقبلهم جميعا، ريجان. وهكذا مع اتفاقية خفض التسليح النووى مع الاتحاد السوفيتى التى وقعها ريجان الجمهوري. كما أنه دائم الحديث عن روبرت موللر المسئول عن التحقيق الخاص بالتدخل الروسى فى انتخابات 2016 على أنه غير كفء لمجرد أنه خدم فى منصبه القانونى طوال فترة أوباما بينما لا يذكر أن بوش الابن هو الذى عبن موللر الجمهورى الانتماء السياسي. بالنسبة للزحف الأمريكى اللاتينى يصمم ترامب على أنه غزو للولايات المتحدةالأمريكية. بينما، إذا كان صريحا غير مناور وقال الحقيقة بالضبط لكان قوله إنه الغزو الذى يهدد الرجل الأبيض الأمريكى الذى بات يتشكك فى الحفاظ على غالبيته العرقية فى البلاد. فى الوقت الذى يعرف الجميع أنه زحف الفقراء الذين لا يجدون ما وعدوا به من النظام العالمى الجديد من فرص عمل وحياة كريمة أفضل من تلك التى يعيشونها، بالإضافة إلى انتشار الجريمة المصاحبة لزراعة وتجارة وتهريب المخدرات. لم يعد من الصعب على السياسيين الوصول إلى الأسباب التى تؤدى إلى استمرار الزحف والهجرة غير الشرعية من الجنوب إلى الشمال، بالرغم من أن الجنوب يضم عددا ولو صغيرا من الدول الغنية التى تستطيع استيعاب هذه الحشود الزاحفة أو على الأقل تخفف من معاناتها. ولكن تتمسك الحشود الكبيرة العدد والقليلة الإمكانات فى التوجه إلى الشمال الذى قدم لها الإغراءات الكاذبة. يعلم الجميع، بما فيهم المنظمات المالية الدولية، أن النظام العالمى الجديد ساعد على زيادة الأغنياء ثراء، بينما استمر الفقراء لا يستطيعون التقاط ما يتقاطر عليهم من البقايا المتبقية من المكاسب. حتى كتابة هذا المقال لا يمكن التكهن بما سيقع على طول الحدود الأمريكية الشمالية مع المكسيك التى تمتد ل3141 كيلو مترا. ولكن مهما يكن الحل حتى بعد سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب فسوف تستمر مسألة زحف الفقراء من الجنوب إلى الشمال ما استمرت السياسيات الاقتصادية الحالية وما استمر الشمال يتدخل ويوجد ويغذى الخلافات والصراعات فى بلدان الجنوب. لمزيد من مقالات أمينة شفيق